ملفّ صوتي للأب الحبري: إيواء الغرباء

يتأمّل الأب الحبري للـ"أوبس داي"، المطران خافيير اتشيفاريّا، بعمل الرحمة الذي يمكن اعتباره مؤاتيًا جدًا لوقتنا الحالي: "الآن، في أيّامنا هذه، ما زال المسيح يفتّش عن أصدقاء لإيوائه في شخص المهجّرين والنازحين".

ملفّات صوتية أخرى للأب الحبري بمناسبة يوبيل الرحمة:

1) المقدمة: أعمال الرحمة (١/١٢/٢٠١٥)

2) زيارة المرضى والإعتناء بهم (١/١/٢٠١٦)

3) إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين (١/٢/٢٠١٦)

4) إكساء العريان وزيارة السجناء (1/ 3/ 2016)

*****

"كنت غريبًا فآويتموني". يدرك الذين يسمعون هذه الكلمات عن لسان يسوع المسيح المخاطر التي تهدّد المسافرين في الطرقات: اللصوص، أو البهائم، أو الأحوال الجويّة السيّئة أو غيرها من الأخطار. وقد اختبرت مريم مع يوسف أيضًا العجز الذي يعاني منه الغرباء عندما أتى يسوع إلى هذا العالم، فأُقفِلت أبوابُ بيت لحمٍ أمامهما، الواحد تلو الآخر، ولم يستقبل ابنَ الله المولود إلاّ اسطبلٌ. وبعد فترةٍ من الزمن، هربت العائلة المقدّسة بسبب اضطهاد الملك هيرودس إلى مصر، حيث لجأت في بلادٍ غريبةٍ، من دون اصطحاب أيّ شيءٍ تقريبًا لأنّ المسيرة كانت مفاجئةً وملحّةً.

وقد أوضح الأب الأقدس أنّ "عظات يسوع تقدّم لنا أعمال الرحمة كي نفهم ما إذا كنّا نعيش على غرار تلاميذه"، وبالتالي، يمكن أن نسأل الله في صلواتنا: لماذا، يا رب، تدعونا لإيواء الغرباء؟ ما الذي تريد أن تعلّمنا إيّاه؟

إنّ إيواء الغرباء يعني استقبالهم، أي افساح المجال أمام الذين يحتاجون إلى المساعدة في عالمنا الآمن والمستقرّ. وهو أيضًا تقدمة الحماية لمَن يشعرون بأنّهم مهدَّدين، ولو خاطرنا نحن براحتنا، مشاركين خيراتنا معهم. فهذا يعني أنّه علينا أن نضحّي بالقليل من الراحة الذاتية ولكن بفرحٍ خارجي وداخلي.

وإنّنا نتأمّل يوميًّا وبألمٍ كبيرٍ، كيف أنّ ملايين من الأشخاص يعرّضون حياتهم للخطر، في الأشهر الأخيرة، من أجل البحث عن حياةٍ أفضل للعيش بكرامةٍ في بلدٍ آخر أو قارّةٍ أخرى. وليس هذا الأمر بظاهرة جديدة، ولكنّ غياب العدالة الإجتماعية وكثرة الحروب في أيّامنا هذه، أدّيا إلى رفع مستوى الهجرة حتّى ما عادت البحار أو أيّ حدودٍ طبيعيةٍ أخرى قادرةً على الحدّ من هذه التدفقات لوقتٍ أكبر.

لم يعدِ الغريب إذًا شخصيّةً بعيدةً، إنّما بات أكثر حضورًا يومًا بعد يومٍ في أزقّة مدننا. وقد أشار البابا إلى أنّه، إذا بدأنا ننظر بلامبالاةٍ إلى السفرات الطويلة والمؤلمة التي تخوضها عائلاتٌ كثيرةٌ، فهذا يعني "أنّنا فقدنا حسّ المسؤولية الأخوي".

فالشعوب التي قد نمت، في خلال قرونٍ عدّةٍ، في ظلّ الحرارة المسيحية، تختبر اليوم هذا التحدّي الكبير. لذلك، أجرؤ على القول إنّ القدرة على استقبال أولئك الذين أجبروا على الهجرة ليست ممكنةٌ إلّا إذا سعينا بشكلٍ يومي، جميعنا، إلى عيش محبّة المسيح. فهذه الرحمة التي كثيرًا ما عزّت هؤلاء في وطنهم من خلال مرسلين ورهبان وراهبات وعددٍ كبيرٍ من الرجال والنساء المؤمنين الذين يجب أن نكون شاكرين لهم، ستُلهم الآن أيضًا كثيرين ليهبّوا إلى المساعدة بطرقٍ مختلفةٍ.

إنّه لمن الضروري تطوير مبادراتٍ متنوّعةٍ لتقديم الرعاية الأساسية التي لا غنى عنها، وتوفير فرص العمل والمنازل والتعليم وما إلى ذلك، عالمين جيّدًا أنّ المسألة ليست إقتصادية فحسب، إنّما أخلاقية في الأساس، لأنّه عندما يطالب أخٍ ما بالعدالة، على المسيحي أن يجيب بالمحبّة.

نرى في الإنجيل كيف أنّ الربّ بذاته كان يتمتّع بضيافة عددٍ كبيرٍ من أصدقائه في خلال كرازته في اليهوديّة والجليل، وكان يُحدث تغييرًا في حياة أولئك الذين فتحوا أبواب منازلهم أمامه: هكذا تمتّعت مارتا ومريم وألعازر بصداقة المخلّص، وهكذا تعلّم سمعان الفرّيسي قيمة المسامحة، وهكذا تخلّى زكّا عن حياته الأنانيّة... الآن، في وقتنا هذا، ما زال المسيح يفتّش عن أصدقاء يستقبلونه في شخص المهاجرين والنازحين.

ويمكننا، أنا وإيّاك، أن نقدّم المأوى للربّ في نفوسنا كلّ يومٍ، عندما نتناوله في القربان المقدّس. أخواتي وإخوتي، أصدقائي وصديقاتي، فلنفكّرْ: كيف نستضيف نحن المخلّص؟ هل نحضّر قلوبنا بشكلٍ جيّدٍ كما حضّرت هذه الشخصيات الإنجيلية منازلها قبل وصول المعلّم؟ بأيّ تفاصيل حبّ نعتني بالضيف الإلهي؟

لسنا ببعيدين عن موضوع الرحمة إذا ما تحدّثنا عن الإفخارستيّا، لأنّ القلب الذي يعرف كيفية التعامل مع المسيح والذي يجتهد لحبّه أكثر يومًا بعد يومٍ، سيتمكّن من استقبال الأخ الذي يحتاج إلى المساعدة أو إلى العمل أو إلى اهتمامٍ خاص فقط.

وإذا كنّا حريصين على المناولة، فإنّ الربّ سيجعلنا أكثر كرمًا وأكثر إحساسًا تجاه ألم الآخرين، وأكثر استعدادًا لتقدمة وسائلنا المادية ووقتنا وإمكانيّاتنا للمحتاجين إلى الرعاية.

لقد مرّ القديس خوسيماريا أيضًا باختبار الهروب والتفتيش عن ملجأ بسبب الاضطهاد الديني الذي عاشته إسبانيا عام 1936. فقد أُجبِر على اللجوء، لمدّة طويلة، في أماكن مختلفةٍ من مدريد، في عليّاتٍ وغرفٍ ضيّقة ٍوفي محلاّتٍ غريبةٍ. وما كان يكشف عن هويّته الكهنوتية إلا إذا تأكّد من أنّ هؤلاء الأشخاص الذين استقبلوه لن يشوا به، من دون أن يخاف من تعريض حياته للخطر، فيقدّم لهم فرصة المشاركة في الأسرار، كالإفخارستيّا والاعتراف؛ إنّ هذا لمواساة حقّة في تلك الأشهر الصعبة. وبذلك، بالرغم من الكره والحقد اللذين سيطرا على الصراع آنذاك، كان المسيح يدخل من جديدٍ إلى قلب أولئك الأشخاص.

قبل أن أختم هذه المحادثة بيني وبينكم، لنطلبْ من العذراء ومن مار يوسف، غريبَيْ بيت لحمٍ ولاجئَيْ مصر، أن يعلّمانا كيف نفتح أبواب حياتنا أمام المسيح الذي يطالبنا بالكرم تجاه الذين يحتاجون لأن يكونوا مقبولين من الغير.