ملفّ صوتي للأب الحبري: إكساء العريان وزيارة السجناء

يتأمّل حبر الـ"أوبس داي" في الملفّ الصوتي لشهر آذار بعمليْن من أعمال الرحمة المادية اللذين يرتبطان بنوعيْن من أنواع الفقر: فُقرُ مَن لا رداء يَكسيه وفُقرُ مَن تَنقُصه الحريّة.

ملفّات صوتية أخرى للأب الحبري بمناسبة يوبيل الرحمة:

1) المقدمة: أعمال الرحمة (١/١٢/٢٠١٥)

2) زيارة المرضى والإعتناء بهم (١/١/٢٠١٦)

3) إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين (١/٢/٢٠١٦)

*****

فلنتأمّل في هذا الشهر بعمليْ رحمةٍ ماديّيْن يرتبطان بنوعيْن من أنواع الفقر: فُقرُ مَن لا رداء يَكسيه وفُقرُ مَن تَنقُصُه الحريّة.

لا يقتصر إكساء العريان على حماية الجسد من الطقس القاسي، بل يتعلّق أيضًا بمساعدة الفرد على الحفاظ على كرامته. فاللباس يسمح لكلّ رجلٍ وامرأةٍ بتقديم ذاتهما بطريقةٍ لائقةٍ أمام الآخرين، وغالبًا ما يشكّل انعكاسًا للأناقة الداخلية المسيحية.

يظهر لنا جليًّا عند التأمّل بآلام الربّ كيف أنّ المسيح بذاته عانى من ظلم البشر. أحدٌ لم يمدّه بلفتةِ محبّةٍ في ساعات الصلب؛ لا أحدٌ باستثناء والدته وعددٍ قليلٍ من الأشخاص. نزعوا عنه حتّى رداءه فاقترع عليه الجنود. وحين دعا يسوع إلى إكساء العريان، كان يعلم أنّه لن يتمتّع بهذه اللفتة المُحبّة: فعُريُ يسوع على الصليب هو صورةٌ لانعدام الرحمة في قلوبنا نحن، رجال ونساء، ولنقص حبّنا، ولبرودة مشاعرنا الناتجة عن خطايانا وأنانيّتنا.

لكن يمكننا التعويض بطريقةٍ ما عمّا لم يقُمْ به أسلافنا على الجلجلة، من خلال معاملتنا لإخوتنا البشر. فعدد الذين لا يملكون الوسائل الماديّة لشراء ثيابٍ لائقةٍ ليس بقليلٍ حتّى في المجتمعات الثريّة. ويقدّم لنا هذا اليوبيل فرصة "فتح عيوننا على مآسي العالم"، وعلى اكتشاف الأشخاص المحتاجين في محيطنا أيضًا. وفي هذا السياق،-تبرز مؤسسات رحمة كثيرة يمكن المساهمة في أعمالها بأشكالٍ شتّى، من خلال وقتنا أو مالنا، وذلك لتأمين ثيابٍ لائقةٍ لمَن يحتاج إليها.

هذا الحال يُتيح لنا فرصًا عديدةً لتخصيص بعض المال لأعمال المحبّة، في مجتمعٍ باتت فيه الموضة ثقلاً يدفعنا أحيانًا تحت رزح العبوديّة، وذلك من خلال التوفير في التبضّع الناتج عن مجرّد نزوة، معتنيين بشكلٍ أفضل بالثياب التي نملكها. وقد نقوم بمجهودٍ أكبر لإعطاء المثال للآخرين من خلال مظهرنا الخارجي البسيط واللائق.

ونمارس أيضًا عمل الرحمة هذا إذا ما ساعدنا بمحبّةٍ واحترامٍ وصبرٍ كلّ مَن يستهين بكرامته الشخصية من خلال طريقة لباسه، بسبب نقصٍ في المُثُلِ العُليا أو في التنشئة. فإنّ اقتراح عدم الانصياع وراء أنواع الموضة السيئة أو ذات الذوق المشكوك فيه، يعتبر مهمّةً تربويّةً أساسيّةً للأهل تجاه أبنائهم وبناتهم، ولأيّ شخصٍ تجاه أصدقائه وصديقاته. فكلّ واحدٍ منّا هو إبنٌ وإبنةٌ لله، بالإضافة إلى حقيقة أنّ طريقة اللباس تبيّن صوْننا للكرامة الشخصية. فلنُظهرْ إذًا أنّ الملابس تغطّي جسدًا تصونُه النفسُ الروحيّةُ وتوجّهه نحو القيامة المجيدة.

وعمل الرحمة الآخر يتناول زيارة السجناء. فلننظرْ مجدّدًا إلى المسيح: ربّ الأرض قد احتُجزَ أسيرًا في الليلة التي قبل الصلب. فكم كانت تلك الساعات مُرّة ليسوع! حرموه من الحريّة وسجنوه فيما كان يتحضّر لمحاكمةٍ جائرةٍ أُدينَ فيها إدانةً غير عادلة على الإطلاق. وتكمن المفارقة في أنّ هذا السجين المُحتَقَر من الجميع، أظهر فعلًا حرًّا تمامًا في تحريرنا من الخطيئة، ولم يرفضْ هذه الخدمة لأنّه ابن الله وأخٌ لكلّ انسانٍ.

يحتاج المحروم من الحريّة إلى مواساةٍ ملؤها الرجاء. لذلك، عَمَدَ الباباوات في السابق، والبابا فرنسيس حاليًّا، في ظروفٍ عدّةٍ، إلى زيارة السجناء، حاملين إليهم كلمات تشجيع وداعينهم إلى الاستفادة من هذه الفترة في حياتهم للانفتاح على الله. ويقول البابا فرنسيس في خلال زيارةٍ لسجنٍ في بوليفيا: "عندما يدخل يسوع في الحياة، لا يبقى الشخص أسيرَ الماضي، بل يبدأ بالنظر إلى الحاضر بطريقةٍ مختلفةٍ وبرجاءٍ مُغايرٍ؛ يبدأ بتغيير نظرته إلى ذاته وإلى واقعه. لا يبقى متخبّطًا في ما جرى، بل يصبح بإمكانه البكاء وإيجاد القوّة هناك للبدء من جديد".

وتُعتبر زيارة السجناء ومساعدتهم على الاندماج مجدّدًا في محيطهم، خدمةً للذين تمّ إبعادهم عن المجتمع. فما أجمل ما يفعله العاملون في هذا المجال والمساهمون فيه، خصوصًا أولئك الذين يهتمّون بالمسجونين على الصعيد الديني؛ وقد باتت هذه المساعدة رائجةً جدًا الآن.

فلنفكّرْ أيضًا بالسجناء الذين ليسوا في سجونٍ من إسمنت، إنّما خلف قضبانٍ من نوعٍ آخر: المدمنون على الكحول أو الأفلام الإباحية أو المخدّرات أو أي نوع من الرذائل الأخرى التي تكبّل الروح وتغرقهم في الهاوية.

لنقتربْ من هؤلاء الأشخاص ولنقدّم لهم التفهم والنصائح، وقبل كلّ شيء صلاتنا. فلنذكّرْهم أنّ الله لا يدع أحدًا يسقط من بين يديه، ولا يتخلّى عن أحدٍ من أبنائه، وهو يقدّم للجميع فرصًا جديدةً دائمًا حتى اللحظة الأخيرة في حياتنا.

توجّه القديس خوسيماريا في بعض المناسبات المختلفة إلى السجن في مدريد في خلال ثلاثينات القرن الماضي. فاهتمّ روحيًا بعددٍ من الشباب الذين سُجنوا لأسبابٍ سياسيّةٍ فقط. كان يذهب لزيارتهم مرتديًا ثيابه الكهنوتية في فترةٍ شاع فيها الاعتداء على الكهنة، ويساعدهم على الصلاة ويشجّعهم على الاستفادة من الوقت في تعلّم اللغات أو مراجعة تعاليم الكنيسة. وكان يحثّهم أيضًا على ممارسة كرة القدم مع سجناء لا يتشاركونهم الآراء عينها والتي غالبًا ما تكون ضدّ المسيحية، لكي ينشأ الاحترام المتبادل من خلال تلك الصداقة التي تجمعهم في الرياضة.

علّم القديس خوسيماريا أن السجون المادية والمعنوية قد تكون أيضًا أماكن للقاء المسيح وللارتداد العميق. لذلك، كان ينصح مؤمني الحبرية بعدم التوقف عن القيام بعمل الرحمة هذا، مُعطينَها معنىً مسيحيًّا أخويًّا. فإذا ما حملنا نحن المسيحيون بلسم رحمة الله إلى تلك الأماكن، يمكن حينها لسجناء كثيرين أن يختبروا الحريّة الحقيقية، أي معرفة أنّهم أبناء الله، وبالتالي، يتيقّنوا من أنّهم محبوبون بلا شروطٍ ومحميّون من قبل والدتنا العذراء.