عينٌ ترى و أيادٍ تتكاتف

ولدت مارا فرايلي في مدينة فايادوليد Valladolidفي إسبانيا، لكنّها تعيش في البرازيل منذ عام 1977. فقد انتقلت حين كانت في الواحد والعشرين من عمرها للعيش في البرازيل وكانت مفعمةً بالحماس للعطاء والمساعدة في العمل الرسولي للـ"أوبس داي" (عمل الله). وفي خلال السنوات التسعة والثلاثين التي عاشتها في البرازيل، ساهمت من خلال عملها المهني في تحفيز نشاطات إجتماعية والتربوية وتعاونية عديدة.

مارا في مدرسة "آو ببينياس" في البرازيل

إنّه "بازار المتسوّلين" وهو نشاط غير مألوف لسكان هذه المدينة. أنشأناه منذ مدّة قصيرة للمرة الثانية في مدينة سان خوسيه دوسكامبوس São José dos Campos البرازيلية. إنّها فكرة جديدة استوحيناها من تسمية العام 2016 عام الرحمة. فكانت دعوةً لنا للتساؤل عن كيفية ابتكار طريقة لمساعدة الفقراء والمحتاجين هنا، خصوصًا أنّ مدينتنا مكتظّة بالمتسوّلين المستسلمين لظروفهم البائسة بغير حيلةٍ.

خطرت على عقولنا أسئلة كثيرة: هل نستطيع فعلاً المساعدة؟ كيف؟ ما هي أمسّ حاجات هؤلاء الأشخاص؟

ففي الواقع، هم بحاجة إلى الكثير! هم بحاجة إلى صابون وأغطية وملابس... وإلى بعض من العاطفة الصادقة والكرامة، وإلى الكثير من المودّة والمحبّة.

حضّرنا كلّ شيء في خلال عدّة أيّام بمساعدة الأصدقاء. جمعنا كمّية جيّدة من المؤن والموادّ الغذائية والمساعدات الطبّية، بالإضافة إلى تبرّعات من الناس. جهّزنا العدّة اللازمة لنصب خيم البازار في الحديقة العامّة، وقد حالفنا الحظّ في أن كان الطقس صافيًا ذاك اليوم ودافئًا. شرعنا بتحضير المعدّات وترتيب الأغراض في أقسام مختلفة: قسم للملابس وقسم للأحذية وقسم للأغطية وقسم لبعض حاجات المنزل، وفي زاوية من السوق خصّصنا مكانًا لكرسي مريح لمن يرغب في قصّ شعره وحلاقة ذقنه.

أصبح كلّ شيء جاهزًا، فبدأنا نستقبل الزبائن. راحت عيون الناس أوّلًا تتفحّص ما نقوم به وتراقبه من مسافة إلى أن أدركوا ما نفعله.

باشرنا في دعوة المارّة بأسمائهم، محاولين تشجيعهم لشراء أو اختيار ما قد يلزمهم: "تعالوا وانظروا ما لدينا! هل تحتاج إلى ملابس أو قصة شعر جميلة؟"

فرحنا كثيرًا بما أثمر هذا البازار الصغير. كانت تجربة رائعة بالنسبة إلينا نحن من ساهمنا بتنفيذه. فعندما نضع ملء إرادتنا في العمل الذي نودّ تنفيذه، يصبح سهلًا تحقيق أعمق رغباتنا وأفكارنا.

البؤس الأشدّ بؤسًا

تعرف البرازيل بأنّها بلد شاسع المساحة، بالغ الروعة والجمال، يبعث فيك الفرح. إلّا أنّه لا يخلو من ظواهر الفقر ويكثر فيه المحتاجين إلى المساعدات المادية أو الثقافية أو حتّى الخدمات الأساسية.

تعبّر مارا عن هذا الموضوع قائلة: "كانت فكرة بازار المتسوّلين هذا من أجمل الفرص التي حظيت بها للمشاركة والمساهمة في تحقيق شيئًا نافعًا في خلال أعوامي التسعة والثلاثين التي قضيتها هنا. وقد كان شرفًا كبيرًا لي أن أساعد عددًا كبيرًا من السكان من خلال تحفيزهم على المشاركة في برامج تنموية ونشاطات يحصلون من خلالها على المساعدة فيُعيلون أنفسهم. وأذكر انطباعي الأوّل، عندما اقتربتُ من واقع حياة هؤلاء الناس و من ظروفهم التعيسة، كم كان من الصعب كتم مشاعري فرغبتُ في البكاء".

وتضيف: "أذكر أيضًا لحظاتٍ مهمّة أثبتت لي كم يجدر بنا ألّا ننسى إنسانيتنا وبالتالي، يجب محاولة لفت الأنظار باستمرارٍ إلى معنى أن تكون إنسانًا كلّ يوم. ففي إحدى المرّات مثلًا، أحضرتُ صندوقًا مملوءًا بالمساعدات والحاجات الأساسية إلى أمّ وأولادها يعانون فقرًا مأساويًّا، لكنّها فضّلت أن أعطي الصندوق لجارتها التي كانت حالتها مزرية أكثر منها".

"وفي مرّة أخرى، زرنا مركزًا يهتمّ بالكفيفين في مدينة كوريتبة Curitiba كي نتحدّث معهم و نستمع إلى ما قد يختبرون في حياتهم اليومية. بدت لنا حياتهم حياةً عادية ولكن، في الوقت عينه، خيالية. كما نظّمنا مشروعًا تعليميًّا وتربويًّا اسمه غاراتويا Garatuja يعتمد على الرقص المخصّص للأولاد المحتاجين في ضواحي البرازيل، ومشروعًا آخر يورويوبا Jurujuba في قرية صغيرة في نيتيروي يهدف إلى تعليم الأولاد وتمكين الأمّهات لتحسين أحوال معيشة عائلاتهنّ، بالإضافة إلى المساعدة في مركز أوسبيناهايس Os Pinhais الذي يساهم في توفير التعليم للأولاد وتمكينهم للعمل في مجال السياحة والقطاع الفندقي".

في بلدة "نيترواي"

أطفال وأمّهات ومرضى ولاجئين

"أمضينا ساعات عدّة نساعد في خلالها الأولاد الذين يحتاجون إلى دعم مدرسي على تنفيذ واجباتهم المدرسية خارج وقت الدروس. وغالبًا ما كنّا نغتنم الفرصة لتعليم أمّهاتهم القراءة والكتابة. وإنّي أذكر ردّ إحدى السيّدات التي، في فترة الانتخابات، طلب منها رئيس القلم وضع إبهامها في الحبر الأزرق كي تبصم، فقالت: "لا داعي، فالآن أستطيع كتابة اسمي والتوقيع أيضًا". وكم من زياراتٍ قمنا بها لمرضى من دون رفيق، وحيدين في المشافي، تقطن عائلاتهم على مسافة ألاف الكيلوميترات ويستحيل عليها زيارتهم أوالسفر إليهم؛ ومساعداتٍ قدّمناها لللاجئين السوريين في المخيمات في خلال الأشهر الأخيرة".

"أنا من مدينة فايادوليد Valladolid، وعندما بدأتُ رحلتي من مطار باراخاس Barajas في مدريد، كنتُ لا أزال شابّة يملؤها الحماس في الحياة، ولو شعرتُ ببعض الرهبة من المجهول. عرفتُ بأنّي سأخوض مغامرات كثيرة وكان لا بدّ من أن أتعلّم الكثير من الأشياء الجديدة وأكتسب المزيد من خبرات الحياة".

تسألني رفيقاتي دائمًا: "هل استحقّت هذه التجربة كلّ هذا العناء؟"

"طبعًا!" أجيب ومن دون تردّد. ناهزتُ الآن الستين عامًا، وقد اتّجهت حياتي بعيدًا عمّا توقّعته أو تصوّرته. فحين أسترجع الماضي، خلال السنوات الستين التي عشتها، أتأكّد من أنّ السعادة ليست هديّة فاخرة أو ربح اليناصيب، وإنّما نحتاج أن نعرف كيف نكتشفها. والحمدلله، توصّلت إلى اكتشافها بسهولة: سعادتي وجدتها في مساعدة الآخرين. وإذ عُرف السرّ، امتلأت أيّامي وسنواتي بالسعادة الحقّة.