بناتي وأبنائي الأحباء، ليحفظكم يسوع لي!
ها إنّ أقوال النبيّ سيتردّد صداها في آذاننا، بعد فترةٍ وجيزةٍ، مع بداية زمن الصوم، محدّثًا إيّانا من قبل الرب: "إرجعوا إليَّ بكلِّ قلوبِكُم وبالصومِ والبكاءِ والانْتِحابِ. مَزّقوا قلوبَكُم لا ثيابَكُم وارْجِعوا إلى الربّ إلهِكُم، فإنَّهُ حَنونٌ، رَحيمٌ، طَويلُ الأناةِ، كَثيرُ الرَحْمَةِ" (1).
تحمل دعوة التغيير العميق هذه واقعًا خاصًا في سنة الرحمة التي تُعتبر مناسبةً مميّزةً لاستحصال النعم للإنسانية جمعاء. فلكم نمتلئ بالثقة والأمان لمعرفتنا أنّ الربّ مستعدٌّ لإعطائنا نعمه دائمًا، وخصوصًا في هذه الأوقات، من أجل ارتدادنا المتجدّد، متقدّمين على الصعيد الفائق الطبيعة، واهبين ذواتنا بشكلٍ أكبر، وسائرين باتجاه الكمال، متّقدين بنار المحبّة (2).
وإنّنا سنجتهد، طوال هذه الأشهر، بغية التقدم في طريق الارتداد الذي يشكّل ملخّصًا لمسيرتنا المسيحية. هذا ما يؤكّده القديس يوحنّا بولس الثاني في رسالته العامة "الغني بالمراحم"-(Dives in misericordia) قائلاً: إنّ "معرفة إله الرحمة والمحبة السمحاء، معرفة خالصة، هي ينبوعٌ دائمٌ عظيمٌ لارتدادٍ لا يكون فعلاً باطنيًّا عابرًا وحسب، بل شعورًا دائمًا وحالةً نفسيةً. والذين يعرفون الله بهذه الطريقة، و"يرونه" على هذا الوجه، لا يمكنهم أن يعيشوا إلا وهم يسعون باستمرارٍ إلى الارتداد إليه. إنّهم يعيشون إذن في حالة ارتدادٍ، وتحدّد هذه الحالة الشطر الأهم من مسيرة كلّ الناس على الأرض الذين هم في حالة سفرٍ" (3).
كان القديس خوسيماريا يشدّد على فكرة أنّ كلّ يومٍ هو كنايةٌ عن ارتداداتٍ عدّةٍ، لا ارتدادٍ واحدٍ فقط. ففي كلّ مرّة تُقوّم خطاك وتسعى إلى أن تجعل حياتك مقدّسة وممتلئة بوجود الله أمام الأمور الصعبة، ولو لم تكن خطيئة بطبيعتها، تكون بذلك قد عشت ارتدادًا(4).
علينا جميعنا تقويم خُطانا وتوجيه عقلنا وقلبنا وأعمالنا نحو الربّ، مبتعدين عن كلّ ما يشتّتنا أو عن كلّ ما يمكنه أن يبعدنا عنه، لأنّنا كلّنا نشعر بالميل نحو الخطيئة، كما يعلّم القديس يوحنا الرسول: "إذا قلنا: "إنّنا بلا خطيئة"، ضللنا أنفسنا ولم يكن الحقّ فينا. وإذا اعترفنا بخطايانا فإنّه أمينٌ بارٌّ يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كلّ إثمٍ. وإذا قلنا: "إنّنا لم نخطَأْ"، جعلناه كاذبًا ولم تكن كلمته فينا"(5).
لنَدَعَنَّ زمن الصوم يلمس أعماق نفوسنا، هذا الزمن المميّز الذي يدعو إلى الصلاة والتوبة وممارسة أعمال الرحمة. وإنّه لدافعٌ محفّزٌ اقترانَه مع السنة المُخصّصة لإعلان الرحمة الإلهيّة، لكي نسعى إلى التصرّف كبناتٍ وأبناءٍ أفضل لأبينا السماوي، الذي ينظر إلى كلّ واحدٍ منّا نظرة شفقةٍ. وقد يكون الوقت مناسبًا لتقييمٍ شخصيّ ولمراجعة تطبيقاتنا لتوصيات البابا المتعلّقة بهذه السنة اليوبيليّة، باتّحاد مع الكنيسة جمعاء.
ومن بين مختلف الممارسات الخاصة بزمن الصوم، أودّ أن أتوقّف عند أحد أعمال الرحمة الروحيّة، وهي الصلاة من أجل الأحياء والأموات. فالصلاة من أجل الأشخاص القريبين منّا، وبشكلٍ عامٍ من أجل الذين نلتقي بهم في خلال اليوم، تُعتبر ضرورةً مُلِحّةً. أوّلًا، لأنّها توسّع قلوبنا، في إطار سعينا للتشبّه بيسوع، وثانيًا، لأنّها تمنعنا من السقوط في الاهتمام المُبالَغ فيه بأمورنا الخاصّة-أو تحدّ منه على الأقل.
ولكم كانت دهشتنا كبيرة عند رؤية اجتهاد القديس خوسيماريا في الصلاة عن نيّة الأشخاص الذين يُصادفهم، وكذلك سعيه إلى الصلاة عن راحة نفوس الموتى عند مروره بالقرب من مدافنٍ أو من مراسم جنازةٍ أو دفن.
وقد بلَغَنا مثَلُه الرائع لنقتديَ به: إذ كان، عند التحدّث إلى أحد الأشخاص، يبدأ الحوار متوجّهًا أوّل الأمر إلى ملاكه الحارس؛ ولمّا كان يتنقّل من مكانٍ إلى آخر سيرًا على الأقدام أو بأحد وسائل التنقّل، كان يصلّي إلى الله من أجل الأشخاص الذين يلتقي بهم في الطريق، حتى ولو أنّه لا يعرفهم أو أنّه على الأرجح ما كان ليلتقي بهم مجدّدًا. فكلّ صلاةٍ من أجل الآخرين كانت بمثابة خطوةٍ إضافيّةٍ في حديثه الدائم مع الله الذي كان يصبو إليه، بهدف التشبّه بيسوع المسيح. وما لبث يشعر أنّه لا يجدر التفكير بأنّنا قد وجّهنا حياتنا بشكلٍ كاملٍ نحو الله؛ فمن الضروري أن نتقدّم نحوه بواسطة أحاديث متتالية معه تقرّبنا من القداسة (6).
فاستعداده هذا كان يقوّي ويشدّد تجاوبه مع دعوة التفتيش بجديّة عن القداسة التي حصلنا عليها جميعًا. وفي هذا السياق، يذكّر البابا فرنسيس باللقاء الذي جمع الربّ بالقديس متّى، قائلاً: "وإذ مرّ يسوع من أمام بيت الجباية، وقع نظره على متى؛ فحدّق به بنظرةٍ مفعمةٍ بالرحمة، غافرًا خطاياه ومتخطّيًا مقاومة التلاميذ الآخرين لاختيار هذا الرجل الخاطئ العشّار ليصبح أحد الإثني عشر"(7).
ويرافق غفران الذنوب دائمًا الدعوة إلى اتّباع المسيح. إذ لا يتوقّف الله عند محو خطايانا متى نرجوه الرحمة بصدقٍ أو نلجأ إلى سرّ الاعتراف، إنّما ينفخ فينا أيضًا نعمة الروح القدس الذي يشدّد حضور الثالوث الأقدس في النفس. "فمصدر كلّ دعوةٍ في الكنيسة هو نظرة يسوع المُحبّة. ويشكّل الارتداد والدعوة وجهيْن لعملةٍ واحدةٍ يتفاعلان معًا طوال حياة تلميذ المسيح الرسولية" (8).
إنّنا نقترب من تاريخ 14 شباط، ذكرى إظهار الربّ للقديس خوسيماريا أنّ النساء أيضًا (عام 1930) وكهنة الحبرية (عام 1943)، يمكنهم أن يكونوا من الـ"أوبس داي". وفي العام 1950، أي بعد سنواتٍ قليلةٍ، رأى أيضًا أنّه يمكن للكهنة الأبرشيّين الانضمام إلى جمعيّة الصليب المقدّس الكهنوتيّة. لذلك، يعتبر هذا التاريخ بالنسبة لأعضاء الـ"أوبس داي" مناسبةً لرفع الشكر لله، تترافق مع امتنان عددٍ كبيرٍ من النساء والرجال الذين يتغذّون من روحانيّة "عمل الله".
هذا التوق إلى إيصال نور المسيح إلى الآخرين بشكلٍ طبيعيّ ينبع من الدعوة المسيحيّة ويشكّل مصدرًا دائمًا للسعادة. ويؤكّد بندكتس السادس عشر ذلك قائلاً: "لا يمكننا أن نحفظ لذواتنا فرح الإيمان: علينا أن ننشره وننقله إلى الآخرين، وبذلك نقوّيه في قلوبنا. فإذا تحوّل الإيمان فعلاً إلى سعادةٍ لإيجاد الحقيقة والحّب، لا مفرّ من الشعور برغبة نقله وإيصاله إلى الآخرين"(9).
كلّ كيان القديس خوسيماريا وخاصةً كيفيّة توجيه نظره بعمقٍ نحو الله في هذه التواريخ التي نحتفل بها، يضعانا أمام تجلّ ساطعٍ لهذه الحقيقة. فلا يمكن فصل حماسته لنشر الإيمان الكاثوليكي عن إصراره على تنمية الـ"أوبس داي". وفي الوقت نفسه، كانت طريقة تصرّفه هذه تنعكس في فرحه أمام تنوّع الدعوات في الدعوة المسيحيّة العامة. وقد عبّر البابا فرنسيس مؤخّرًا عن رغبته في "أن يكتشف كلّ المعمّدين فرحة الإنتماء إلى الكنيسة في خلال اليوبيل الإستثنائي للرحمة. ليتهم يكتشفون من جديدٍ دعوتهم المسيحيّة والدعوات الخاصة أيضًا التي تنبع من أحشاء شعب الله والتي هي نعمٌ من الرحمة الإلهيّة. فالكنيسة هي منزل الرحمة و "الأرض" هي حيث تنبتُ الدعوةُ وتنمو وتُثمرُ" (10).
فلنطلبْ هذه النعمة من والدة الإله ووالدتنا، أمّ الحبّ العذب، متّحدين روحيًّا بالأب الأقدس في خلال زيارته المقبلة إلى المكسيك، من 12 إلى 18 شباط الجاري. ولنلجأْ إلى عذراء "غوادالوبيه" لكي تنمو ثمارًا روحيّةً كثيرةً وارتداداتٍ كثيرةً بشفاعتها، في خلال هذه الزيارة وقبلها وبعدها أيضًا، في المكسيك وفي العالم أجمع.
منذ سنواتٍ، في خلال التحضير لليوبيل الذهبي لتأسيس الـ"أوبس داي"، كتب لنا الطوباوي ألفارو العزيز: "اطلبوا من سيّدتنا أن تعيد إحياء شغف الوفاء للمسيح - رأس الجسد السرّي - في المخلوقات كلّها، من خلال ارتدادٍ عميقٍ نحو المعنى الفائق الطبيعي للدعوة المسيحيّة، وأن تقودها إلى المشاركة بالأسرار وإلى الحياة الداخلية التي تقضي بالاتّحاد بالله، وإلى المحبّة الأخويّة وطاعة الرعاة وإلى القوّة لحماية ونشر الإيمان والعقيدة الصالحة، من دون القبول بالتزاماتٍ غير أمينةٍ" (11).
فلنمدّد صلاة الطوباوي ألفارو ليومنا هذا، وتابعوا الصلاة من أجل نواياي الأخرى، من دون أن ننسى الصلاة عن نيّة المرضى: فإنّ الربّ يدعو مؤخّرًا عددًا كبيرًا من إخوتكم وأخواتكم، ولا شكّ أنّه أمرٌ صعبٌ ومُكلفٌ! ولكن، علينا أن نمتثل بكلّ قلبنا لإرادة الله العادلة والمُحبّة، والتي لديها جانبٌ آخرٌ وهو أنّهم سيتمتّعون بالتأمّل الأبديّ بالثالوث القدوس.
مع كامل محبتي، أبارككم
أبوكم
خافيير
روما، 1 شباط 2016
(1) يوئيل 2، 12-13
(2) القديس خوسيماريا، ملاحظات مدوّنة في أحد تأملاته، 2 آذار 1952
(3) القديس يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة "الغني بالمراحم"، رقم 13.
(4) القديس خوسيماريا، ملاحظات مدوّنة في لقاء عائلي، 1 تشرين الأول 1970.
(5) رسالة يوحنا الأولى ـ 1 يو 1، 8-10.
(6) القديس خوسيماريا، ملاحظات مدوّنة في لقاء عائلي، 1971.
(7) البابا فرنسيس، مرسوم الدعوة إلى يوبيل الرحمة، 11 نيسان 2015، رقم 8.
(8) البابا فرنسيس، رسالة اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات، 28 تشرين الثاني 2015.
(9) بندكتس السادس عشر، كلمة في خلال افتتاح المؤتمر الأبرشي في روما، 11 حزيران 2007.
(10) البابا فرنسيس، رسالة اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات، 28 تشرين الثاني 2015.
(11) الطوباوي ألفارو دل بورتيّو، رسالة 9 كانون الثاني 1978، رقم 13.