تُعدّ الصداقة من أثمن الروابط الإنسانية، وتتميز بالعطاء دون مقابل، وتنشأ من لقاء صادق يجد فيه كل طرف مساحة للثقة والمودة. وبما أن الصداقة رابطة اختيارية وحرّة بطبيعتها، فهي قائمة على الإحسان والمشاركة. إن صدقها، وهو شرط أساسي، يجعلها بالنسبة للكثيرين أرفع الروابط. تُبنى الصداقة وتُثبت مع مرور الوقت، فهي تتطلب الصبر والوفاء والغفران والسخاء. تحترم حرية كل فرد، ولا يمكن أن تزدهر في ظل التملّك أو الغيرة أو الكذب أو الحقد، فهي تدمرها حتماً. تنشر الصداقة في الحياة الفرح والبهجة، وتخفف من صعوباتها؛ فكم من ابتلاءات لم نكن لنحتملها بدونها! كتب القديس أوغسطينس: «بدون أصدقاء، لا أحد يختار الحياة، حتى لو امتلك كل الخيرات الأخرى.» وذكر شيشرون: «بدون الصداقة، لا شيء يكون حلوًا، ولا يوجد متعة حقيقية.»
حسب الفترات والظروف، يمكن أن تختلف قوة الصداقة ودرجة الالتزام بها. يمكن أن تزدهر في كل دوائر الحياة: مع الوالدين أو الأولاد حين يتحول الحب الأبوي إلى ودّ متبادل، ومع الإخوة أو الأسرة الممتدة حين تتحد المودة وروابط الدم مع الاحترام المتبادل، ومع الزوج أو الزوجة عندما تشكل أساس العلاقة العاطفية. ويمكن أن تنمو الصداقة أيضًا في المدرسة أو العمل، وأحيانًا تنشأ من لقاء غير متوقع يتحول إلى نعمة دائمة. كل شخص نصادفه قد يصبح صديقًا محتملًا وفرصة لإظهار الخير. في كل الحالات، تغذي الصداقة النمو الشخصي وتمنح الحياة بعدًا من المشاركة والتبادلية.
تزداد الصداقة جمالًا وسموًا عندما ندرك بُعدها الروحي، وهو غالبًا واضح. كتب القديس أيلريد من ريفولكس: «الله هو الصداقة، ومن يثبت في الصداقة يثبت في الله والله فيه.» واعتبر القديس أوغسطينس: «طوبى لمن يحب صديقه فيك، يا رب، ومن يحبه صديقه فيك.» وذكّر القديس خوسيماريا إسكريفا: «الصداقة ليست مجرد شعور، بل هي عمل محبة.» وأكد القديس يوحنا ذهبي الفم: «الصداقة التي تقوم على المسيح أقوى من كل شيء.» وهكذا، في تجربة الصداقة، نختبر بالفعل وجود الله، كما جاء في الإنجيل: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، أكون معهم» (متى 18:20).
الصداقة القصوى، التي تمنح كل الصداقات الأخرى معناها، هي الصداقة مع المسيح نفسه. ففي الإنجيل، يدعونا يسوع إلى هذه الألفة الفريدة: «لم أعد أدعوكم عبيدًا… بل دعوتكم أصدقاء» (يوحنا 15:15). أن تكون صديق المسيح يعني الدخول في شركة حية مع شخصه والمشاركة في حياة الله ذاته، كما يضيف: «اثبتوا في محبتي» (يوحنا 15:9). هذه الصداقة الإلهية هي أساس حياتنا الروحية كمسيحيين: فهي توجّه علاقاتنا الإنسانية، وتطهّرها وتسمو بها، وتجعلنا نتذوّق بالفعل، بنعمة، المشاركة في الحياة الثالوثية.
