عظة حبر الـ"اوبس داي" بمناسبة عيد القديس خوسيماريا في روما

ألقى المونسنيور خافيير اتشيفاريا عظة بمناسبة عيد القديس خوسيماريا، في خلال القداس الذي احتفل به في بازيليك القديس أوجينيوس في روما. وتأمل فيها بمحطّات من حياة هذا القديس على ضوء يوبيل الرحمة الإلهية.

عظة القداس الاحتفالي بعيد القديس خوسيماريا

المونسنيور خافيير اتشيفاريا، حبر الـ"أوبس داي"

روما، بازيليك القديس أوجينيوس، 26 حزيران 2016

فلْيتمجّدْ يسوع المسيح ربّنا.

إخوتي وأخواتي الأعزّاء،

لا نستطيع أن نتوقّف عن الاندهاش وعن الشعور بالامتنان أمام الحوار الذي دار بين يسوع وبطرس والذي نقرأه في نصّ الإنجيل. فبعد أن استخدم الربّ قارب سمعان الحقير، دعاه إلى أن يسير في عرض البحيرة ويلقي الشباك للصيد، ورافقه، وهو عالمٌ أنّ هذا الرجل هو صيّادٌ متمرِّسٌ، لذلك أجابه ببساطةٍ وبثقةٍ أنّه تعب طوال الليل ولم يصطد شيئًا.

فتساءل بطرس كيف يتحوّل حظّه على هذا النحو وقد طلّ ضوء النهار؟ ولكنّه، على الرغم من ذلك، وضع ثقته بمَن قدّم له النصيحة، وقام بما طلب يسوع، ورمى الشباك. وسرعان ما وقع بطرس على ركبتيه جاثيًا أمام المسيح حينما رأى تلك الثمار الاستثنائية التي حصدها في خلال رحلة الصيد تلك. أمّا المسيح، فأجابه بعطاء أكبر، معلنًا له، منذ تلك اللحظة، أنّه سيكون ورفاقه في الصيد صيّادي بشر.

وها إنّ علامة أخرى تظهر لنا جليّة في خلال سنة يوبيل الرحمة هذه، من خلال تصرّف الرب، علامة للرحمة الإلهيّة. فإنّ يسوع يشفق على الصيّادين الذين ما استطاعوا أن يحصلوا على أيّ ثمرة من عملهم الذي هو مصدر عيشهم، ولكنّه احترم حريّتهم، وبدل أن يجري هو العجيبة، تركهم منبهرين حتّى من دون أن يعملوا شيئًا، فهو ما عرض عليهم سوى أن يرموا الشباك مرّة جديدة. وبهذه الطريقة، هم بأنفسهم اصطادوا "عددًا كبيرًا من السمك"، وهو عدد هائل لدرجة أنّ "شباكهم كادت تتمزّق". هذا أمر منطقي! ولأنّ الربّ أشفق عليهم، أيقظت شفقته وتفهّمه لهم إيمانًا كبيرًا وملموسًا فيهم: فالمعلّم لا يتجاهل قدرتهم على العمل والمثابرة وعلى النمّو من خلال المجهود المشترك.

وإنّنا قادرون على أن نؤكّد أنّ رحمة الله، التي جاءنا بها المسيح بقدومه إلى الأرض، تطلق الحرية البشرية. يا للروعة! الله يترك أمامنا فرصة العمل، إذ يرغب في أن نقدّم نحن أيضًا مساهمتنا. وهو يعتمد على مهنيّة كلّ واحد منّا: صيّادون، معلّمون، بنّاؤون، حرفيّون، موظّفون في القطاع العام... وفي مهن أخرى كثيرة. كلّ واحد منّا، أطبّاء أو العاملون في مجال الصحّة أو صحافيون... يافعون أو هرمون...- كلّ واحد منّا يمكنه أن يأخذ العبرة من ما يقترحه القديس خوسيماريا في تعليقه على هذا النصّ. فكان يعلّق على دعوة الربّ إلى السير إلى عمق المياه بالتالي: "سرّ في العرض! أطرد عنك التشاؤم الذي يجعلك جبانًا" (طريق 792). وينبغي علينا جميعنا، على كلّ واحد منّا، ألاّ نتلقّى وحسب، بل أن نعطي لا بل نقدّم ذواتنا فنستحقّ أن نسمع نداء الربّ: "لا تخف، سأدعوك اليوم صيّاد بشر".

فإنّ إيجاد كرامتنا الحقيقية يكمن في تقديم حياتنا من أجل التبشير بيسوع ومن أجل أن نحبّه؛ هذا ما تعنيه عبارة صيّاد بشر. وكما يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني، إنّ الإنسان "لا يمكنه أن يجد اكتماله الخاصّ إلّا في التقدمة الصادقة للذات إلى الآخرين" (الدستور العقائدي "فرح ورجاء" Gaudium et Spes ، رقم 24).

والآن، فلْنَعدْ إلى الإنجيل. لقد تأمّلنا كيف أنّ الربّ أنار بطرس إلى حقيقة ذات معنى أعمق وأسمى: نقل معنى الفعالية الماديّة للصيد إلى خصوبة العمل الرسولي.

فيهتف بطرس إذّاك: "ابتعد عنّي، فأنا رجل خاطئ". ونحن أيضًا، مثل بطرس، ندرك أنّنا خاطئون، وفي الوقت عينه، نجد في حياتنا، مثل يسوع، أشخاصًا قد ابتعدوا عن الله أو أشخاصًا منبوذين مرذولين أو أشخاصًا قد دفعهم الألم إلى الإنعزال داخل البؤس الذاتي والوحدة.

لقد فهم القديس خوسيماريا هذا الواقع منذ صباه، فكثّف زياراته إلى المرضى والمنبوذين الذين رفضتهم المستشيفات والبيوت، منتقلًا إلى ضواحي مدينة مدريد، بدافع من حسّه الرعويّ.

وأشار البابا فرنسيس بدوره، في الرسالة التي كتبها بمناسبة تطويب ألفارو دل بورتيو، إلى هذا الاستعداد للذهاب نحو الآخرين الذي رآه أيضًا في حياته، وقال: "كان يذهب إلى الضواحي لتقدمة المساعدة على صعيدي التنشئة البشرية والمسيحية إلى عدد كبير من الأشخاص المحتاجين إليها" (رسالة 26 حزيران 2014).

أمّا القدّيس يوحنا بولس الثاني، فقد أوضح أنّ القدّيس خوسيماريا، "القدّيس الكبير بالإنسانية"، قد شجّع طوال حياته "أعمالًا تبشيريّة كثيرة وأعمال تنمية إنسانية للأشدّ فقرًا" (كلمة البابا يوحنا بولس الثاني، 7 تشرين الأوّل 2002). وبدوري، أودّ اليوم، مقتديًا بالبابا فرنسيس ومرحّبًا بدعوته لـ"نشر رحمة الله" (مرسوم "وجه الرحمة"، 11 نيسان 2015)، أن أشجّع كلّ المؤمنين وكلّ أصدقاء الحبرية على اتّباع هذا الطريق الذي فتحه المسيح لنا، الطريق الذي أحبّه القديسون؛ وإنّي عالم بأنّكم تقومون بذلك والحمد لله. فهذا هو طريق خدمة الآخرين ومساعدتهم في احتياجاتهم، والخروج من الذات للسير كالمسيح "في العمق"، ومرافقته هناك حيث ينتظرنا عدد كبير من الأشخاص غير الواعين إلى ذلك.

ويمكننا نحن أيضًا أن نفعل في الآخرين كما فعل المسيح في بطرس؛ أن نولّد فيهم المفاجأة في أن يجدوا أنفسهم مفهومين، في أن يجدوا من يشجّعهم ويقدم لهم المساعدة الروحية أو المادية. ونستطيع كبطرس، أن نعتمد على إيماننا المتجدّد أو على عملنا من أجل نشر الرحمة الإلهية: فالمدرّس ينشر الرحمة عندما يعلّم من يجهل؛ والطبيب عندما يشفي المرضى برقّة؛ والقاضي عندما يعمل بإخلاص جديّ؛ والطبّاخ عندما يحضّر المأكولات للجائعين... وأيضًا، في "مهنة" الأمومة والأبوّة الرائعة: أيّها الآباء وأيّتها الأمهات! أنتم شهود للرحمة في كلّ لحظة من لحظات أيامكم، منذ الصباح وحتّى المساء، من دون توقّف، مساعدين بعضكم البعض على تربية أبنائكم في فرح الحب. تمامًا كما قال البابا فرنسيس: "إنّ أعمال الرحمة لا تنتهي، وكلّ عمل لديه ختم شخصي، ختم القصّة التي يخبّئها كلّ وجه" (تأمّل، 2 حزيران 2016).

في الختام، يمكننا أن نقول، مع القديس خوسيماريا، أنّ الوجود المسيحي ينمو في جوّ الرحمة الإلهية. "هذه هي بيئة الاجتهاد للتصرّف كأبناء الآب" (عندما يمرّ المسيح، 8). وينشد المزمور الثاني: "أعطيك (...) أقاصي الأرض ملكًا لك". نعم، إنّ الربّ يعطينا الأرض كميراث لكي ننقل للعالم أجمع المفاجأة التي يعيشها أبناء الله وحبّهم وفرحهم.

فلْتعطِنا العذراء مريم، أمّ الرحمة، قلبًا رحومًا لكي نحب الآخرين كأبناء لله. وبهذه الطريقة، يمكننا أن نحبّ فرح خدمتهم.

فلْيتمجّدْ يسوع المسيح ربّنا.