عملي كطبيب أسنان في القرى اللبنانية

إني طبيب أسنان، وأردتُ أن أتشارك معكم، في هذا المقال الذي أكتبه، تجربتي المهنية في جبال لبنان.

إني طبيب أسنان، وأردتُ أن أتشارك معكم، في هذا المقال الذي أكتبه، تجربتي المهنية في جبال لبنان. فمع بدء جائحة الكورونا والحجر الإلزامي، انتقلتُ إلى قريتي الأمّ حيث ربيتُ وعشتُ مع عائلتي في صغري. إنّها قرية جبلية جميلة إسمها تنورين، تعلو حوالى 1500م عن سطح البحر وتبعد 70 كلم شمال بيروت. يكسوها الثلج شتاءً وفي الصيف طقسها منعشٌ باردٌ.

لي صديق، طبيب عيون ومدير مستشفى حكومي في المنطقة، اقترح يومًا عليّ إعادة فتح عيادة الأسنان في المستشفى وتشغيلها. فقد توقّفت العيادة عن العمل منذ حوالى بضعة أشهر، إذ أنّ زميلي الذي كان يعمل فيها قبلًا، ترك مركزه وسافر إلى بلدٍ عربي حيث قُدّم له عرض عملٍ مهمٍّ، بحثًا عن وضعٍ ماديّ أفضل وهربًا من الوضع الإجتماعي المتداعي والأزمة السياسية المتفاقمة في لبنان.

أحببتُ العرض؛ فإنّ التحديات تلفتني وبشغفٍ أقوم بعملي. وإذ كان لي وقتٌ بعد، فكّرتُ جدّيًّا في العرض وفي إمكانية أن أقدّم المساعدة لأهل منطقتي من خلال مهنتي. وهكذا كان. بدأتُ في العمل في عيادة المستشفى منذ سنتين. في البدء، كنتُ أذهب يومًا واحدًا في الأسبوع، ولكنّي سرعان ما فهمتُ ضرورة تواجدي فيها بشكلٍ أكثر. فالناس الذين يقصدون العيادة هم بغالبيتهم من ذوي الموارد الإقتصادية المحدودة، وبفعل الأزمة الحالية التي طالت على أهل لبنان، أصبح العديد منهم يُحصَون من بين الفقراء، ولا يستطيعون بالتالي أن يتحمّلوا كلفة معاينة طبيب الأسنان. وها إنّي الآن، أتواجد في العيادة ثلاثة أيام في الأسبوع.

لا أعرف لماذا يتوافد إليّ الناس باستمرار. قد يكون بسبب الأزمة أو أيضًا لأنّهم يكتشفون اجتهادي في أن أعمل عملي بإتمام ومهارة. هذا ما تعلّمتُه من روحانية "عمل الله": تقديس العمل ليصير بذاته مقدِّسًا لنا ولمَن حولنا. تطول لائحة الانتظار يومًا بعد يوم ولكنّي أسعى إلى أن أستقبل الحالات الطارئة والمُوجِعة أوّلًا.

يفيض أطباء الأسنان في لبنان. فمقارنة مع الدول الأوروبية التي تحسب طبيب أسنان واحد لكلّ 2000 شخصٍ، في لبنان يتواجد طبيب أسنان لكلّ 400 شخصٍ. والحال أنّ أطباء الأسنان في لبنان يعملون بغالبيتهم في المدن وضواحيها، فتفتقر بالتالي القرى والمناطق الجبلية إلى الأطباء والأخصّائيين. أستمرّ إلى اليوم في العمل في عيادتي في ضواحي بيروت، غير أنّ عملي في المستشفى الحكومي في تنورين يجذبني أكثر. صحيح أنّ كلفة العيادة في مستشفى القرية أقلّ، وهذا يسمح لي بأن أعطي أكثر، فبالعطاء الوفير تزيد السعادة. وقد لا أبالغ إذا ما أكّدتُ على أنّي أعامل بمحبّة أكبر مَن يقصدني في عيادتي الجبلية ممَن يأتي إلى عيادتي في بيروت. فالأشخاص في القرى التي تنقصهم الموارد المادية يقدّرون فعلًا المعاينة التي تُقدَّم لهم في المستوصفات والمستشفيات من قبل أخصائيين يعاملونهم بودٍّ وتفهّمٍ، فيشعرون كأنّهم في عيادة خاصة أو مراكز إستشفائية راقية.

أدين بهذا لروحانية "عمل الله" التي علّمنا إيّاها القديس خوسيماريا إسكريفا. فضلًا عن ذلك، لقد اختبرتُ شخصيًّا كيف أنّ العمل المُتقن بتفاصيله والمُتمّم بقدر الإمكان على أكمل وجه، يفيض عليّ بفرحٍ لا وصف له، في حين أنّ العمل الناقص لا يسبّب لي إلّا القلق والتردّد. وإني أستفيد من هذا كلّه لكي أعلّم المتدرّبين في طبّ الأسنان الذين يأتون للعمل في عيادتي أهميّة العمل الجيّد والاعتناء بالمرضى كأشخاص ولا كعدد إضافي.

منذ بدء الحرب في سوريا في عام 2011، توافد اللاجئون إلى لبنان وسكنوا في مناطق عدّة وقد زاد عددهم عن المليون لاجئ. لطالما عُرف لبنان بضيافته وبفتح أبوابه لمَن كانوا بحاجة إلى الإحتماء واللجوء فيه. لذلك، كثيرون هم اللاجئون السوريون الذين أتوا إلى المستشفى الحكومي للمعاينة، وإنّهم بغالبيتهم مسلمون، ممّا يبرّر أيضًا تردّدهم في المجيء إلى مستشفى معظم أطبائها مسيحيون. بدا لي هذا الأمر أوّلًا تحدّيًا كبيرًا، ولكن سرعان ما انتشر اسمي بين جمع اللاجئين معرّفين عنّي بأني الطبيب د. الشاعر الذي يستقبل بمحبّة وابتسامة الجميع ويخفّف من آلامهم. إني أشكر الله على السمعة الطبيبة التي حصدتها في مناطق لبنان الجبلية، فصار يزداد عدد مرضاي الآتين إلي بالرغم من المسافات وغلا أسعار المحروقات.

غالبًا ما أتوقّف عن العمل لاستراحة قصيرة عند الظهر لأصلّي صلاة التبشير الملائكي مع مساعدتي وزبائني ولو كانوا من ديانة أخرى. وقد كثُرَت صداقاتي مع زملائي وزبائني في خلال هذه السنوات الثلاثة، فصرنا نقصد، من وقتٍ إلى آخر، الكنيسة الصغيرة في المستشفى الحكومي، وهو أمرٌ غير اعتيادي، لأنّ المراكز الحكومية لا تتبع أي ديانة، ولكن نظرًا إلى أنّ المنطقة كلّها مسيحية، تمّ تخصيص مكان في المستشفى ليكون كنيسة صغيرة، حيث يُحتَفل بالقداس الإلهي أيام الخميس من كلّ أسبوع. وأتردّد إليها أيضًا من أجل زيارة قصيرة للقربان المقدّس. وصرتُ أهتمُّ بتزيينها وبإضاءة شمعة أمام بيت القربان دلالة على وجود القربان المقدّس فيه. وقد رآني كثيرون أقصد الطابق العلوي حيث الكنيسة، وسألوني عمّا أفعله هناك، فأجيبهم بأنّي أزور "الريّس" وأسلّم عليه. وقد ظنّ بعضهم أنّي أقصد مدير المستشفى، فاستغربوا قائلين إنّ مكتبه في الطابق السفلي. وهذا يسمح لي بأن أشرح لهم أنّ "الريّس" الحقيقي هو ربّنا يسوع المسيح، فأدعوهم لمرافقتي أو يطلبون مني أن أصلّي عن نية خاصة بهم.

لا أبدأ اليوم من دون تسليم عملي إلى الله ووضع كلّ مَن أختلط بهم بين يديه لما فيه من خيرهم الروحي والمهني. ولا أشكّ أبدًا بأنّه يسمعني ويستجيب صلاواتي.