وثيقة إطارية: على الطريق نحو المئوية

تحتفل حبرية "عمل الله" بالمئوية الأولى على تأسيسها، وتمتدّ من 2028 إلى 2030. و من أجل التحضير لهذه الذكرى، نقدّم لكم وثيقة إطارية بعنوان "على الطريق نحو المئوية"، حيث نقترح عليكم بعض الأفكار التي يمكن أن تغذّي تأمّلنا، مؤمنين وأصدقاء لـ"عمل الله"، بالمئوية للتعمّق في روحانيتنا وتجديد رغبتنا في خدمة الله والكنيسة والمجتمع.

في 14 أيلول/سبتمبر، دعا الأب الحبري المؤمنين وأصدقاء "عمل الله" (الأوبس داي) إلى المشاركة في التحضيرات للجمعيات الإقليمية التي يكون موضوعها: "على الطريق نحو المئوية: للتعمّق في روحانية "العمل" وتجديد رغبتنا في خدمة الله والكنيسة والمجتمع."[1]

ويحفّزنا هذا التاريخ المهمّ على التفكير في كيفية التعامل مع تحديات العصر الحالي من خلال روحانية "عمل الله": فإنّنا نريد أن نحتفل بمئوية "العمل" في كلّ مكان، متطلّعين إلى المستقبل.

وكما صرّح الأب الحبري "ستمتدّ احتفالية المئوية من 2 تشرين الأوّل/أكتوبر 2028 إلى 14 شباط/فبراير 2030، الذي يصادف فيه أيضًا المئوية لبداية العمل الرسولي لـ "عمل الله" مع النساء. وبالتالي، ستكون احتفالية ضمن تاريخين، كعلامة على الوحدة […]. وأتمنّى أن ننضمّ جميعنا إلى التحضير لها" (رسالة الأب الحبري، 10 حزيران/يونيو 2021). فبالنسبة لنا نحن الذين نشكّل جزءًا من عائلة "العمل"، ستكون هذه الاحتفالية بمثابة فرصة للتعمق، على ضوء الإيمان وبنعمة ربّنا، في عظمة حبّ الله الذي دعانا شخصيًا، وفي جمال رسالة "العمل" في خدمة الكنيسة والمجتمع.

تقدّم هذا الوثيقة بعض الأفكار التي يمكن أن تغذّي تأمّلنا بالمئوية التي تُعَدّ بابًا مفتوحًا نحو القرن الثاني من تاريخ "عمل الله". تهدف إلى تشجيع الجميع على المشاركة من خلال تقديم اقتراحات وتجارب سيتمّ دراستها في خلال أسابيع العمل على المستوى الإقليمي. وستشكل الأفكار الناتجة عنها مرجعًا هامًّا للمؤتمر العام العادي لعام 2025، بالإضافة إلى كونها دليلًا للإعداد للمئوية.

لذلك، لن تقتصر احتفالية المئوية على تنظيم أحداث تذكارية ومناسبات احتفالية، بل ستهدف بشكلٍ أساسي إلى تحفيز الرغبة في التعمّق بروحانية "عمل الله" لفهمها وتجسيدها في خدمة الكنيسة والمجتمع.

تقدّم لنا المئوية فرصةً جديدةً لاكتشاف جوهر وجودنا: إنّ الله يحبّنا وهو يدعونا لنكون أبناءً له في ابنه، من خلال هبة الروح القدس. وقد ذكّرنا الأب الحبري بذلك منذ بضع سنوات: "إنّ الإخلاص المسيحي هو إخلاصٌ شاكرٌ لأننا لسنا مخلصين لفكرةٍ ما بل لشخصٍ: ليسوع المسيح ربّنا الذي - يمكن لكلّ واحدٍ منّا أن يقول: - "أحبّني وبذل ذاته من أجلي" (غلاطية 2: 20). فمعرفتنا بأنّنا محبوبون شخصيًا من الله تشجّعنا على العيش، من خلال نعمته، بحبّ مخلصٍ دائمٍ؛ بحبّ مفعمٍ بالأمل فيما سينجزه الله في الكنيسة والعالم، من خلال حياة كلّ واحدٍ منّا، على الرغم من هشاشتنا" (رسالة من الأب الحبري، 10 تشرين الأوّل/أكتوبر 2017). لذلك، تحثّنا الاستعدادات لهذه الذكرى على أن نكون نفوسًا متأمّلةً في وسط العالم.

تحديات زماننا

يضيف الأب الحبري أنّ هذه الذكرى هي "فرصة مؤاتية للنظر في التحديات الكبيرة التي تواجه الكنيسة والمجتمع وللتفكير في كيفية المساهمة في مواجهتها". فقد دعنا القديس خوسيماريا إلى "أن نحبّ العالم بشغفٍ". وكان يقصد العالم الحقيقي الذي نعيش فيه، بثرواته وتناقضاته. فالعالم هو واقعٌ حيٌّ يتطوّر ويتغيّر. وبالتالي، "يجب على كلّ جيلٍ من المسيحيين أن يفدي وأن يقدّس زمانه" (عندما يمرّ المسيح، رقم 132). ولكيما نستطيع محبّة العالم بشغفٍ، علينا أن نعرفه ونفهمه. وفي هذا السياق، تدعونا المئوية إلى التأمّل في مجتمعاتنا وزماننا، من أجل نشر نور الإنجيل فيها.

إنّ روحانية "عمل الله" تُعاش اليوم في ظروف ليست هي عينها كما كانت قبل مئة عام. "فالتغيير والتعديلات التي تطرأ على المجتمعات على مرّ الزمان، قد تجعل من الظروف التاريخية مختلفة، فيصير ما كان قبلًا عادلًا وجيدًا يبدو الآن ظالمًا وسيئًا. لذلك، يجب علينا دائمًا أن نتمتّع بروح النقد البنّاء الذي لا يسمح للخمول بأن يكبّلنا ويشلّنا" (القديس خوسيماريا، رسالة رقم 29، رقم 18). وفيما تتطوّر الأحداث والتحديات مع مرور الوقت، تتجدّد الأجيال التي تعيش روحانية "عمل الله"، بحيث تكون قادرة على تقديم إجابات واقعية ومنشّطة بقوة المؤمنين الأوّلين في "العمل".

ولا بدّ لنا من أن نفكّر في الوضع الحالي للعائلة، للعمل، للعلاقات الاجتماعية، للثقافة والعدالة والسلام، لأنّنا مدعوّون إلى تقديس هذا الواقع بأجمعه. ويتعيّن علينا أن نتأمّل في قضايا اكتسبت أهمّية خاصة في السنوات الأخيرة وترسّخت بعمقٍ في مجتمعنا، وأن نفهم بشكلٍ أفضل، بنظرة مَن هم أبناء الله، طبيعة العالم وما يحتاجه، لأنّنا نحبّه بشغفٍ ونريد أن نخدمَه، وأن نكتشفَ كلّ ما هو جيّد فيه، وأن نحدّد كلّ ما لا يتناسب فيه مع كرامة الأفراد. لذلك، يجب علينا أن نتساءل كيف نتلقّى كلّ ما هو جيّد "بإيجابية وانفتاحٍ أمام التحوّلات الاجتماعية وتغيّرات أساليب العيش" (خطّ المسيرة، رقم 428)؛ أو أيضًا كيف نجدّد ونزيد من رغبتنا في نشر رسالة المسيح في جميع الأوساط للذين يحتاجون إليها.

لننظرنِّ أيضًا إلى التحديات التي تواجهها الكنيسة في أيامنا والتي هي تحديات بالنسبة إلينا أيضًا: العلمنة وكيفية الإعلان عن محبة الله، ودور العلمانيين والعائلات في التبشير، والديناميكية بين التقليد والتجديد، والوحدة والحوار، والتواصل الكنسي وتداعياته، إلخ... فالروحانية التي أفاضها الله على القديس خوسيماريا حثّته على أن "نخدم الكنيسة كما ترغب الكنيسة في أن تُخدم" (كلمات القديس خوسيماريا في افتتاح مركز إليس، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1965). وبالتالي، إنّ فهم التحديات التي تواجهها الكنيسة في كلّ بلدٍ وفي العالم أجمع سيدفعنا إلى الاستعداد بجدّيةٍ لهذه المهمة.

إعادة اكتشاف عطية الروح

يقترح الأب الحبري في رسالته في 10 حزيران/يونيو 2021، أن تكون هذه المناسبة وقتًا للتأمّل حول "هويّتنا وتاريخنا ورسالتنا"، بنظرةٍ نحو المستقبل وبرغبةٍ في تجديد أنفسنا.

وقد تزامنت بداية الاستعدادات للمئوية مع نشر الإرادة البابوية "Ad charisma tuendum"، الذي حثّنا البابا من خلالها على توجيه انتباهنا نحو الروح التي بثّها الربّ في القديس خوسيماريا لكي نعيشها بالكامل. وقد شدّد البابا فرنسيس على حماية روحانية "عمل الله" من أجل "تعزيز عمل الكرازة التي يحققه المؤمنون فيها ونشر الدعوة إلى القداسة في العالم، من خلال تقديس العمل وواجبات الحياة العائلية والاجتماعية العادية". فقد أراد الله الاعتماد على القديس خوسيماريا لنقل هذه الرسالة بجاذبيتها الاستثنائية وإمكانيات عيشها بإبداع.

وعند التفكير في النصوص التي يمكن أن تغذّي مرحلة الاستعداد لأسابيع العمل، قد يتبادر إلى الذهن الكثير من كتابات القديس خوسيماريا التي تعرض بعض جوانب روحانية "عمل الله". ولكن سيتمّ اقتراح ثلاث رسائل من بين عدّة.

أوّلًا، الرسالة رقم 29[2]، كُتبت لتسليط الضوء على جوانب من دور مؤمني وأصدقاء "عمل الله" في تقديس العالم والحياة الزوجية والعائلية. وتدعو هذه الرسالة جميع المسيحيين إلى الاشتراك مع يسوع في الفداء، وإلى عدم البقاء متفرجين على الآخرين، بل إلى العمل كالخميرة في العجين، لكيما يكونوا "خميرة تقدّس البشر، فتجعلهم، في تقديسهم، بشرًا حقًا" (الرقم 7أ).

ثانيًا، الرسالة رقم 6[3]، حيث يتناول القديس خوسيماريا مواضيع مختلفة حول خاصية روحانية "عمل الله" التي يبشّر بها، وحول استمدادها من الإنجيل وتشبّهها بحياة المسيحيين الأوّلين.

ثالثًا، الرسالة رقم 4[4]، التي تتعلّق بالمحبّة في نقل الإيمان. ويقدّم القديس خوسيماريا في هذه الرسالة شروط الحوار التبشيري مع الرجال والنساء الذين يرغبون في الاقتراب من الكنيسة، من خلال التفاهم واحترام حرية الضمائر والإخلاص لوديعة الإيمان.

وإذا ما تنبّهنا إلى السياق الذي نعيش فيه وإلى الأفكار التي نتبادلها مع الأشخاص من حولنا، فإننا بالتأكيد سنكون قادرين على العثور على الوسائل المناسبة للتواصل، سواء بالكلمة أو بالمثل، لنقل الكرازة المسيحية وروحانية "عمل الله" التي، نظرًا لطابعها العلماني، تشكّل جسرًا للحوار في مجالات العمل والعائلة والعلاقات والعلوم والفن والسياسة والبيئة، ويدًا ممدودة نحو جميع الذين يسعون إلى الوصول إلى الحقيقة، وتعزيز كرامة الأفراد والخلق، وفعل الخير وخلق الجمال.

وتظلّ كلمات القديس أوغسطينوس صادحة في وجه الأوضاع المعقّدة والتغيّرات السريعة: "يقال إنّ الأوقات سيئة، صعبة. عيشوا بشكلٍ جيّدٍ، فتصير الأوقات جيدة. نحن هم الأوقات! الأوقات هي ما نحن عليه!" (عظة. 8، 8). إنّ التجديد الأوّل الذي يجب أن نسعى إليه، هو تجديد ذواتنا، تجديد كلّ واحدٍ منّا. فمن أجل أن نقرّب العالم من الله، يتحتّم علينا أن نسعى نحن أوّلًا إلى التقرّب منه، صائرين متأمّلين في الحياة اليومية.

الماضي، الحاضر، المستقبل

في خلال الاحتفال بهذه المئوية، سيتّحد الماضي بالحاضر وبالمستقبل، والامتنان بالأمل، وطلب الغفران بالنعمة. ففي نهاية اليوبيل عام 2000، شجّع البابا يوحنّا بولس الثاني على النظر إلى الماضي بامتنان، وعلى عيش الحاضر بحماسٍ، والتقدم نحو المستقبل بأملٍ: "غوصوا إلى العمق" (الرسالة الرسولية Novo Millennio Ineute، رقم 1). وبالمثل، لطالما ردّد الطوباوي ألفارو، في ذكرى مناسبات بارزة: "شكرًا، آسف، ساعدني أكثر". وقد تلهمنا هذه الكلمات للاحتفال بالمئوية.

ستشكّل المئوية مناسبةً للاعتراف شاكرين بعطية الله التي تتبلور في روحانية "عمل الله"، وفي حياة مؤسّسها، وفي النعم الكثيرة التي أُفيضت علينا في خلال هذه السنوات. وهي بمثابة امتنان لجميع الأشخاص الذين بذلوا جهودًا جمّة لإحياء هذه الروح في محيطهم، وللمؤسسات التي رافقتنا: آباء وعائلات، رجال ونساء تعاونوا مع القديس خوسيماريا، كاثوليكيين وغير كاثوليكيين ساعدوا ويساعدون بسخاءٍ "عمل الله" في جميع أنحاء العالم. ولا ننسى اعتبار مَن كانوا، في وقتٍ ما، جزءًا من عائلتنا على مدى السنين المائة هذه، متّحدين بهم بطريقةٍ خاصّةٍ.

وبالإضافة إلى الامتنان، ستُعدّ المئوية وقتًا لطلب العفو: عن القيود الشخصية والجماعية، وعن الإغفال وعن الضرر الذي يمكن أن يكون قد تسبّب فيه كلّ واحدٍ منّا. فاسترجاع الماضي يشمل اكتشافًا متجدّدًا لأصول روحانية "عمل الله" وجوهرها وقيمتها الحقيقية، وتعمّقًا في تاريخها وفي أفرادها وفي أحداثها، بحسناتها ومساوئها: فالتاريخ، سواء شخصي أو مؤسسي، جزءٌ لا يتجزّأ من الهوية.

أخيرًا، ستكون المئوية فرصةً للأمل، مفعمةً بالثقة في نعمة الله وفي حداثة روحانية "عمل الله" وقوتها، لتنير ظروف حياتنا المعقّدة، حاضرًا ومستقبلًا. وإنّنا لواضعين ثقتنا في قوة الروح القدس، لا في قوتنا الخاصة. وعلى هذا النحو، نستعدّ للاحتفال، في عام 2025، باليوبيل الأوّل للكنيسة في الألفية الثالثة والذي يحمل عنوان "حجّاج الأمل" (فرنسيس، رسالة إلى المطران ر. فيزيكيلا بمناسبة اليوبيل في عام 2025، 11 فبراير 2022).

يتضمّن الفهم العميق لروحانية "عمل الله" بُعدًا فرديًا يطال كلّ شخصٍ، وبُعدًا مؤسسيًا يتعلّق بكلّ المبادرات المتنوعة التي طوّرها أفراد "العمل" بنعمة الله على مرّ العقود. وفي هذا السياق، يكمن المفتاح في أن يتطلّع كلّ فردٍ إلى أن يكون محرّكًا لتأثيرٍ مسيحي مهمّ في مجاله: في التعليم، والصحة، ومكافحة الفقر، والشباب، والعائلة، ووسائل الإعلام، وغيرها... وبالتالي ينمو ويتطوّر ليواصل كرازة الإنجيل على نطاقٍ واسعٍ وبعمقٍ. لذلك، يتوجّب على الأشخاص المشاركين في هذه المبادرات أن يفكرّوا في أصولها ويبحثوا عن كيفية تعزيز الأهداف المهنية والرسولية التي أثارتها، وعن متابعتها بجهدٍ متجدّدٍ، من أجل تعديل ما يلزم متى تغيّرت الحاجات الاجتماعية التي أدت إلى إنشائها أو إغلاق مرحلة لبدء مرحلة جديدة تتناسب مع احتياجات الكنيسة والمجتمع في الوقت الحالي.

كلّ هذا كناية عن تمرينٍ لفهم الهوية الذاتية والتاريخ الشخصي؛ تمرينٍ متّسمٍ بالشفافية والجهد لمعرفة كيفية شرح مَن نحن. ولتحقيق ذلك، سيكون مفيدًا الإصغاء إلى آراء الأشخاص الذين عملوا في هذه المبادرات، والذين تخرجوا منها، وإلى العائلات التي استفادت منها، والمحيط التي أثّرت به: يعني أن نستمع إلى تنوّع الآراء وتعدّدها من أجل الاستعداد للعمل مع الجميع وتقديم إجابات لما يحتاجه العالم.

بين الأكثر حاجة

تقدّم المئوية نظرةً جديدةً، كما يقول الأب الحبري، "للتعرّف على حبّ الله في حياتنا وحمله إلى الآخرين، بخاصةٍ إلى من هم بين الأكثر حاجة" (رسالة الأب الحبري، 10 حزيران/يونيو 2021).

فإنّنا نجد المسيح في الإنجيل والكرازة وفي أسرار الكنيسة وفي الآخرين، وبخاصةٍ في المحتاجين. فقد ذكّر البابا فرنسيس: "نحن مدعوون إلى اكتشاف المسيح فيهم، وإلى إعارة أصواتنا لقضاياهم، وإلى أن نكون أصدقاء لهم، وأن نستمع إليهم ونفهمهم، فنكتشف الحكمة التي يريد الله أن يبلغنا إياها من خلالهم" (فرح الإنجيل، رقم 198). واعتاد القديس خوسيماريا القول إنّه في الفقراء والمرضى وجد قوة لدفع "عمل الله" للأمام، فاعتمد على صلواتهم التي اعتبرها قيّمة جدًّا.

ودائمًا ما سنجد من حولنا أشخاصًا محتاجين. فالحبّ الذي يدفعنا نحو اللقاء بهم مرتبطٌ، بشكلٍ وثيقٍ، بالاعتراف بأنّ لكلّ شخصٍ حاجةً إلى الله وإلى الآخرين، وبالتخلّص ممّا يحتجزنا في مصالحنا الشخصية البحتة. ويُذكرنا الفقر بأنّ كنوز حياتنا لا تكمن إلا في الله وفي علاقاتنا مع الآخرين، ولكي ننعمَ بحياةٍ كريمةٍ وسعيدةٍ، يجب علينا جميعنا أن نعيش متحرّرين من الماديات في وسط مجتمعٍ استهلاكي. ولا بدّ من أن تطّهر هذه التجربة الشخصية نظرتنا لكي نكتشف الآخرين، كما قال القديس خوسيماريا: "الفقراء هم كتابي الروحي الأفضل والدافع لصلاتي. أتألّم معهم، وأشعر بألم المسيح فيهم. ونتيجةً هذا الألم، أفهم أنّني أحبّه وأحبّهم" (خطّ المسيرة، رقم 827).

ومن خلال عملنا المهني وحياتنا اليومية العادية، يمكننا أن نساهم في نشر محبّة الله بين أولئك الذين يحتاجون إليها بشدّةٍ. فالعائلات ومجالات العمل والعلاقات الاجتماعية تحتاج إلى شهادات عن التعاون والدعم المتبادَل وبذل الذات لصالح الآخرين، وهم إخوتنا، وفقًا لطريقتنا العلمانية في اتباع أسلوب يسوع. وبالتالي، يشكّل نمط حياتنا نواة دعوتنا ورسالتنا ويعطيهما مصداقية عالية.

ويوفّر التطور غير المسبوق الذي وصلت إليه البشرية في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والاتصالات، وسائل عدّة للعمل على القضاء على التمييز واللامساواة والتخفيف من النقص في الغذاء، والمودة، والسكن، والعمل، والتربية، والحقوق، والصحة، والحرية، وما إلى ذلك. فهذه النقائص تمسّ بكرامة الفرد وبالتنظيم العادل للمجتمع وتتطلّب هذه التحديات الشاملة والمعقّدة، الفردية والاجتماعية، "إبداعًا وخيالًا جديدًا في المحبّة" (الرسالة الرسولية Novo Millennio Ineute، رقم 50) يساهمان في تنمية الفرد الشاملة ويعبّران عن الرعاية التي يخصّها الله لكلّ شخصٍ.

لطالما أوضح القديس خوسيماريا قائلًا: "إنّ الإنسان أو المجتمع الذي لا يتفاعل مع التحديات أو الظلم، والذي لا يبذل جهدًا لتخفيفها، ليس إنسانًا أو مجتمعًا على مقياس محبّة قلب يسوع المسيح" (عندما يمرّ المسيح، رقم 167). فاليوم أيضًا، إذ نتطلّع معًا نحو المئوية، تتقدّم لنا "فرصةٌ خاصةٌ لتنشيط خدمتنا، على الصعيد الفردي أو الجماعي، لمَن هم الأكثر حاجة، ولزيادة الوعي على أهمّيتها كما شدّد القديس خوسيماريا" (مداخلة للأب الحبري في مؤتمر Be to Care، في 29أيلول/سبتمبر 2022). وقدّم الأب الحبري في هذه المداخلة عناصر قيّمة للتفكير في ما يتضمّنه الإبداع والخيال الجديد في المحبّة.

وفي خلال سنوات التحضير للمئوية، يتوجّب علينا أن نفكّر في البُعد الاجتماعي للدعوة المسيحية، وفي صلاحية العقيدة الاجتماعية للكنيسة ومدى تأثيرها، وفي تداعيات تقديس العمل في بناء مجتمع إنساني مسيحي. ويمكننا أيضًا أن نتساءل حول الإرث الذي قد تخلفه هذه المئوية، كتعبيرٍ ملموسٍ عن الامتنان الذي نشعر به تجاه الهبات التي تلقيناها.

إن الله يجدّد كل شيء (رؤ 21: 5)

"أمّا أنتم، أيّها الشباب، فسيكون لكم دورٌ أساسيٌّ"، قال الأب الحبري في رسالته في 10 حزيران/يونيو 2021. فإنّهم سيحملون رسالة القديس خوسيماريا نحو القرن القادم. فبكلمات القديس خوسيماريا: "لقد تمّ كلّ شيء، ولكن يبقى كلّ شيء للقيام به".

فالشباب ليست مجرّد مرحلة بيولوجية، بل هي خاصية تدوم. "لذلك لا نخفتنَّ أبدًا، بل على العكس، وإن كان جسمنا يتهاوى، فإن الإنسان الداخلي فينا يتجدّد يومًا بعد يوم" (2 كور 4: 16). فنعمة الله تجدّدنا وتنعشنا إذا ما انفتحنا إليها، والله يجدّد العالم وكلّ شيءٍ فيه، وكلّ المجالات، من خلال المسيحيين الذين يرغبون في أن يكونوا سفراء لرحمته.

بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس "عمل الله"، دعانا القديس خوسيماريا إلى "تجديد إخلاصنا إلى الدعوة الإلهية، لنكون في قلب العالم زارعي سلامٍ وفرحٍ" (رسالة تهنئة عيد الميلاد، كانون الأوّل/ديسمبر 1952). والآن، وفيما يقترب الاحتفال بالمئوية، سنكتشف من جديدٍ جمال روحانية "العمل" وسنفكّر فيها ونعيشها وننقلها بإخلاصٍ وإبداعٍ وفرحٍ في ظروف الكنيسة والعالم الحالية، سواء على الصعيد الشخصي أو المؤسسي. لنجيب إذًا هكذا على دعوة البابا فرنسيس الذي دعانا منذ بداية حبريته "إلى مرحلة تبشيرية جديدة تتّسم بهذا الفرح" (فرح الإنجيل، 1).

إلى أمّنا العذراء مريم، سبب سرورنا، وإلى القديس يوسف، مثال الإخلاص، نعهد طريقنا نحو المئوية.

روما، في 18 أيلول/سبتمبر 2023

___________________________________________________

[1] أراد خوسيماريا إسكريفا دي بالاغير في "عمل الله" الجمعيات الإقليمية أو أسابيع العمل كأداة للتفكير ولمشاركة أفراد "العمل" وللاستماع إليهم. فمنذ تشكيلها، اتّسمت بطابعٍ استشاريّ وكانت وسيلة لكل فرد للتعبير عن رأيه في مواضيع تتعلق بروح "عمل الله" وبأساليب نشر رسالته في جميع أنحاء العالم." (خوسيه لويس غونزاليس غيون، "أسابيع العمل في السنوات التأسيسية"، Studia et Documenta 17، 2023، ص. 268)

[2] Studia et Documenta n. 17 (2023) : 279-351 (https://www.isje.org/setd/2023/SetD-17-2023-10-CANO.pdf).

[3] Josemaría Escrivá de Balaguer, Cartas (II), Rialp (2022): Carta n. 6.

[4] Josemaría Escrivá de Balaguer, Cartas (I), Rialp (2020): Carta n. 4 (https://opusdei.org/es-es/article/carta-caridad-san-josemaria/)