زيارة البابا لاوون الرابع عشر لا تأتي في زمن عادي، بل في لحظةٍ تتكسّر فيها إرادة الناس على أرصفة المعاناة. وربما هذه الزيارة ليست مناسبة احتفالية بقدر ما هي جرعة أوكسيجين لوطنٍ يختنق منذ سنوات طويلة.
في المدن والقرى التي سيمرّ فيها الحبر الأعظم، قد تنشغل البلديات والأبرشيات والجمعيات بأعمال التنظيم، وترتيب الساحات، وضبط حركة الزوّار. لكن في العمق، ثمة تحضير من نوعٍ آخر يحدث بصمت: تحضير القلوب؛ ذاك التحضير الذي يشير إليه القديس خوسيماريا حين يشير إلى أن القداسة تُبنى على إخلاص الأعمال اليومية، وأن القلب المهيّأ لله يظل مستمرًا في سماع صوت الله مهما كانت الظروف الخارجية صعبة. تحضير يشبه تلك المساحة الحميمة التي فيها يصغي الإنسان لله وسط ضجيج الحياة اليومية.
الكهنة والمجموعات الشبابية والمكرّسون وجميع أبناء الكنيسة الكاثوليكيّة، الذين يحملون ذاكرة لبنان "القديم"، يتعاملون مع هذه الزيارة باستعداد داخلي قبل أن يكون خارجيًا—استعداد يذكّر بتعليم القديس خوسيماريا: ابدأ حيث أنت، بما لديك، واعمل من أجل الله؛ فهناك يبدأ التغيير الحقيقي.
يتطلع اللبنانيون إلى البابا لاوون الرابع عشر ليس كزعيم ديني فحسب، بل كشاهدٍ يأتي من خارج الفوضى ليذكّرهم بأن الحياة اليومية، مهما كانت ثقيلة، يمكن أن تصبح مكانًا للنعمة. وأنهم شعب يستحق الحياة، حتى وإن أقنعهم واقعهم بالعكس.
انتظارهم روحي… لأن الروح في لبنان مُتعبة، مثخنة، تبحث عن كلمة تُعيد إليها التوازن.
وهو انتظار أخلاقي… لأن منظومة القيم تاهت في زحمة النجاة الفردية.
وهو انتظار اجتماعي… لأن المجتمع نفسه تفتّت، وصار كل بيت جزيرة منفصلة تحاول ألا تغرق.
الناس ينتظرون منه كلمة تُعيد لهم معنى المواطنة، ومعنى الأخوّة، ومعنى أن للإنسان كرامة لا تُقاس بالمال ولا تُقاس بقوة السلاح، ولا بالعنف والكراهية والبغيضة والعنصريّة بل بقوة القلب الذي يعرف أن يحبّ ويغفر ويبدأ من جديد.
ينتظرون منه كلمة تُذكّرهم بما قاله القديس خوسيماريا بأنّ القداسة ليست امتيازًا للقلة، بل دعوة للجميع، تُبنى من خلال ألف فعل صغير من الحب.
كما ينتظرون أن يأتي البابا حاملًا مجددًا رسالة القديس يوحنا بولس الثاني: أنّ لبنان ليس فقط وطنًا بل رسالة—رسالة تُصنع يوميًا بأمانة العمل، بالرجاء الذي لا يموت، وبالإيمان بأن الله حاضر في التفاصيل الصغيرة.
للأسف، لبنان اليوم ليس ذاك البلد الذي كان يُضرب به المثل. هو بلد يُقاوم الانهيار يوميًا بلقمة، بابتسامة مرّة، وبصلابةٍ مدهشة رغم الألم.
الحرب جعلت الناس يحسبون خطواتهم، والفقر جعلهم يحسبون أنفاسهم، والفساد جعلهم يحسبون أخطاء غيرهم، أما الضعف الروحي فقد جعلهم يحسبون أيامهم بلا أفق.
ولهذا بالذات تأتي الزيارة لتقول شيئًا بسيطًا لكنه ثوري: أنّ النهوض ممكن. وأن الإنسان لا يُطلب منه أن يكون قويًا دائمًا، بل أمينًا — فالثبات في الأمور الصغيرة هو بطولة يوميّة، وهو طريق القداسة.
يكفي أن يتذكّر الناس أنّهم لم يُخلقوا ليُسحقوا، وأن الله يعمل في الجهد الصابر، في التضحية الخفية، في الرجاء العنيد.
لن يحمل البابا عصًا سحرية، ولن يُغيّر واقعًا تراكمت فوقه الأزمات كالجبال، لكن رمزية حضوره تكمن في قوله للبنانيين: أنتم لستم وحدكم.
إنّها زيارة تُعيد ترتيب الأولويات: الإنسان قبل السياسة، الرحمة قبل الحسابات، والروح قبل العناوين.
وتعيد التذكير بأنّ الإيمان ليس طقسًا، بل قوّة داخلية تقدّس العمل اليومي.
وأنّ الأخلاق ليست تراثًا فقط، بل شرطٌ للبقاء.
وأنّ المجتمع لا يُبنى بالقوة، بل بالثقة وبالعمل الأمين الذي يبدأ من كل بيت، من كل مكتب، من كل قلب.
لبنان، رغم جراحه، لا يزال يملك ما لا تملكه دول كثيرة: قلبٌ يدقّ رغم التعب، وإصرار على النور رغم العتمة، وقدرة غريبة على البقاء واقفًا، كما لو أن السقوط ليس خيارًا.
زيارة البابا لاوون الرابع عشر ليست حدثًا عابرًا، بل فرصة جوهريّة ليعيد اللبنانيون اكتشاف أنفسهم، واكتشاف أن القداسة تبدأ من هنا، من الحياة اليومية، من هذا الواقع الذي يبدو أحيانًا قاسيًا حدّ الاختناق.
فربما، وسط الحشود والصلوات والترانيم، يشعر أحدهم بأنّ هذا البلد، مهما تعب، لا يزال يستحق أن يُحب… وأن يُنقَذ فحيث وُجدت المحبة الصادقة، هناك دائمًا تبدأ القيامة.
