السنوات الأولى

كانت المهمّة كبيرة، ولم يكن الكاهن الشّابّ يملك أيّة وسائل مادّيّة، ولا أشخاصًا محضّرين، ولا نصيرًا. ولم يكن له أيضًا أيّة معلومات حول الموضوع ولا أيّة موافقة كنسيّة. ومع كونها بسيطة، لم يكن حدس المؤسّسة سهلاً لإفهامه. بالطّبع، لم يكن الأب إسكريفا خاليًا من التفاؤل ومن الثّقة التّامة بأنّ العمل كانت من الله. إنّما الصّعوبات كانت كثيرة جدًّا.

كانت المهمّة كبيرة، ولم يكن الكاهن الشّابّ يملك أيّة وسائل مادّيّة، ولا أشخاصًا محضّرين، ولا نصيرًا. ولم يكن له أيضًا أيّة معلومات حول الموضوع ولا أيّة موافقة كنسيّة. ومع كونها بسيطة، لم يكن حدس المؤسّسة سهلاً لإفهامه. بالطّبع، لم يكن الأب إسكريفا خاليًا من التفاؤل ومن الثّقة التّامة بأنّ العمل كانت من الله. إنّما الصّعوبات كانت كثيرة جدًّا.

ماريا اغناسيا اسكوبار

في القطار

كي يبرهن أنّ المشروع كان فعلاً من لدنه، تجلّى الله مرّة أخرى، ليضع أسسًا متينة لهذا البناء، وللأشخاص الّذين سوف يتولّونه. ففي منتصف تشرين الأوّل 1931، كان خوسيماريّا موجودًا في حافلة كهربائيّة، عندما تلقّى عطيّة صلاة عالية جدًّا. "لقد أحسست بعمل الرّبّ، وقد أيقظ في قلبي وعلى شفتيّ، بقوّة أمر ناهٍ وضروريّ، هذا الدّعاء اللّطيف: أبّا! أيّها الآب. كنت في الشّارع، في حافلة (...) لا بدّ أنّي تلفّظت بهذه الصّلاة بصوت عال. وقد سرتُ في شوارع مدريد مدّة ساعة، ربّما ساعتين، لا أستطيع أن أقول بالتّحديد، إذ لم أشعر بمرور الوقت. لا بدّ أنّي حُسِبتُ مجنونًا. لقد تأمّلت، بأنوار لم تكن من عندي، بهذه الحقيقة المذهلة، الّتي اشتعلت كجمرة في نفسي، والّتي لن تخمد إطلاقًا.

كانت حياته الباطنيّة مشبعة بثقة بنويّة، لكن الآن كان يرى، بعمق خارق، سرّ البنوّة بالتّبنّي بيسوع المسيح. "أيقنت آنئذ أنّ البنوّة الإلهيّة يجب أن تكون ميزة أساسيّة لروحانيّتنا. أبّا! أيّها الآب! وأنّ أولادي، بعيشهم البنوّة الإلهيّة، سوف يمتلئون غبطة وسلامًا، في حمى حائط منيع؛ وأنّهم سوف يكونون رسل هذا الفرح، ويعرفون إيصال هذا السّلام، إنْ في آلامهم الشّخصيّة أو في آلام سواهم. وتحديدًا لأجل هذا السّبب: لأنّا متأكّدون أنّ الله هو أبونا".

كان الأب إسكريفا يواظب في خدمة مستفيضة للمرضى والمعوزين، باحثًا في صلواتهم وعذاباتهم المرفوعة لله، عن القوّة، ليضع هذا المشروع الإلهيّ على قدم وساق. وها الأب خوسِه ماريا سوموانو، أحد الكهنة المرافقين له قرب المرضى، يلتزم في عمل الله. وكذلك كانت الحال بالنّسبة لشابّة مصابة بالسّلّ، ماريا إغناسيا غارسيا إسكوبار، والّتي توفّيت بعد ذلك بقليل، بعد أن قدّمت حياتها كلّها للعمل.

ثلاثة، ثلاثة آلاف، 300 ألف...

سنة 1933، كان قد جمع جماعة من الطّلاّب. كان يجدهم أينما يستطيع، ويدفعهم نحو حبّ شغوف بيسوع. كان يتنزّه مع هؤلاء الشّبّان، ويتردّد غالبًا معهم إلى مكان يسمّى إل سوتانيلّو (El Sotanillo) حيث، حول كوب من الشّوكولا، كان يكشف لهم عن أحلامه الكبرى بالرّسالة في العالم كلّه. كان يهبهم كتابًا حول حياة أو آلام السّيّد. وفي إهدائه لأحد الشّبّان واحد من هذه الكتب، كتب له: " مدريد، 29 / 5 / 33. إبحث عن المسيح. جد المسيح. أحبّ المسيح".

كان يدعو الطّلاّب لمرافقته في زياراته إلى الفقراء والمرضى، وَلِمَدِّ هؤلاء بخدمات صغيرة. نظّم تعليمًا دينيًّا في أحياء بائسة، كيما يتمكّن هؤلاء الشّبّان من الالتزام بخدمة المعوزين.

حانت السّاعة أخيرًا لإطلاق دورة تنشيئيّة، لنقل روح العمل إلى الطّلاّب، بطريقة كاملة ومنتظمة. فضرب موعدًا لعدد منهم للقاء أوّل في دار تديره راهبات. لم يحضر سوى ثلاثة. لكنّه، فَرِحَ كمن جاءه أكثر، فقد قادهم في نهاية الاجتماع إلى المصلّى، ليعطيهم البركة بالقربان الأقدس. "لقد باركت هؤلاء الشّبّان الثّلاثة... وكنت أرى فيهم ثلاث مئة، ثلاثة آلاف، ثلاثين مليونًا، ثلاثة مليارات ... بيضًا وسودًا وصفرًا، من جميع الألوان وجميع الخلطات الّتي يمكن للحبّ البشريّ أن يوجده. وقد كنت قصير النّظر، إذ تحقّق الأمر وأضحى واقعًا في خلال نصف قرن تقريبًا. أجل، كنت قصير النّظر (...) لأنّ الرّبّ كان أكثر كرمًا".

الله والشجاعة

سنة 1930، إيزيدور زورانو، مهندس شابّ، ورفيق مدرسة لخوسيماريّا في لوغرونيو، طلب أن يُقبل في عمل الله. آخرون حَذوا حذوه من بعده. وكان المؤسّس يشعر إذّاك بالحاجة إلى أداة للتّنشئة، تعطي وحدة ورؤية لهذه المهمّة التّبشيريّة. فكان يكرّر هذه الصّلاة القصيرة مرارًا: نريد أن يملك المسيح. الأداة البشريّة يجب أن تكون نشاطًا مدنيًّا، مشرّبًا بروح مسيحيّ. وهكذا أبصرت النّور الأكاديميا DYA، سنة 1933. مقامة في شقّة، فقد كان يُعطى فيها دروس في الحقوق والهندسة، من هنا العنوان Derecho Y Arquitectura. لكن بالنّسبة له وكلّ شبّانه، هذا العنوان كان له معنى أعمق: ألله وشجاعة. نعم، كان يلزم الكثير من هذه. فالأكاديميا كانت تعيش عجائبيًّا.

في الواقع، كان ذلك أكثر من مركز تعليميّ. كان مركز تنشئة مسحيّة لطلاّب، يستطيعون أن يتقبّلوا من الكاهن توجيهًا روحيًّا. تنشئة موجّهة تمامًا نحو التّماثل الشّخصيّ مع يسوع المسيح. في الحجرة الّتي يستقبل فيها الكاهن، كان هناك صليب خشبيّ معلّق على الحائط، بلا مصلوب. فإذا ما سأله أحدهم عن المعنى، كان يجيب: "إنّه ينتظر المصلوب المفقود: وهذا المصلوب هو أنت".

في السّنة الجامعيذة التّالية، 1934 – 1935، أراد القدّيس خوسيماريّا أن يقوم بخطوة إضافيّة: نقل الأكاديميا إلى مكان أكبر، ممّا يتيح لبعض الطّلاّب من الإقامة فيها. إنّما، من النّظرة الإنسانيّة، كان الوضع الماليّ ميؤوسًا منه. فطلب من الجميع أن يصلّوا، واستسلم لطيبة الله. في مطلع السّنة الجامعيّة، وُجدوا فعليًّا في الأكاديميا – رازيدنس، في شارع فرّاز (Ferraz). بدون أعجوبة، بآلام كثيرة، الكثير من الصّلاة وثقة مطلقة بالله. "المجد كلّه لله!" هذا ما كان يردّده في صلاته.

في كانون الأوّل 1934، عُيّن رئيسًا للمؤسّسة الملكيّة "سانت إيزابيل" (Sainte Isabelle)، وكانت تحوي ديرًا اسّسه القدّيس ألونسو دو أوروزكو (Alonso de Orozco). وكان خوسيماريّا قبلاً مرشد الرّاهبات الأوغسطينيّات اللّواتي كنّا يعشن هناك.

في تلك الحقبة، بدأ بخطّ مستندات ذات طابع تأسيسيّ: إرشادات ورسائل طويلة ترسم للأجيال الطّالعة الرّوح والطّرق التّبشيريّة الخاصّة بــ عمل الله. وهذا مثال على ذلك:

"عمل الله وُجدت لإتمام مشيئة الله. فلتكن فيكم إذًا الثّقة العميقة أنّ السّماء تعهّدت بتحقيقها. عندما الله ربّنا يودّ القيام بعمل ما تجاه البشر، فهو يفتكر أوّلاً بالأناس الّذين سوف يستخدمهم كأدوات... ومن ثمّ يهبهم النّعم المناسبة لذلك. هذا الاقتناع الفائق الطّبيعة حول ألوهيّة المشروع سوف يمدّكم في نهاية الأمر بالحماس والحبّ العارمين للعمل، لدرجة أنّكم ستشعرون بسعادة كبرى لتضحّوا كي تتحقّق".

سنة 1934، يظهر كتاب صغير وفيه أفكار للتّأمّل، تحت عنوان "إعتبارات روحيّة"، الّذي، بعد عدّة سنوات فيما بعد، سوف يصبح "طريق"، (Chemin). إنّه عبارة عن خواطر هدفها حثّ الحياة المسيحيّة لدى الشّبيبة، طلاّب ومهنيّين، موجّهين نحو حياة تأمّليّة حقًّا.

في تمّوز 1935، ألفارو دِل بورتيّو طلب أن يقبل في العمل. إنّه طالب في الهندسة، لامع، وسوف يصبح المساعد الأقرب لخوسيماريّا إسكريفا، قبل أن ينتخب ليدير عمل الله عند وفاة المؤسّس.

لكنّ الحياة المدنيّة في إسبانيا راحت تزداد فسادًا أكثر فأكثر، والاضطهاد الدّينيّ المنظّم من قبل مجموعات متطرّفة أصبح أكثر فأكثر معلنًا وقاسيًا، مع حرق كنائس وأديار، وقتل كهنة ورهبان تعسّفيًّا.