خطوات على الثلج

"القلق الإلهيّ ليس فقط عاطفة روحيّة أو شوقًا غامضًا لاتّخاذ الإيمان بجدّيّة". بدأت أتحسّس الحبّ، وأتيقّن من أنّ القلب يريدني لأمر ذي جلل، يتناسب وموضوع الحبّ (...) لم أكن أعرف ما كان ينتظره الله منّي. لكن ذاك كان، بكلّ وضوح، إختيارًا.

الاربعاء 9 كانون الثّاني، خوسيماريّا يعيّد ميلاده السّادس عشر. وكانت حينها مدينة لوغرونيو (Logroňo) في قلب عاصفة ثلجيّة قويّة منذ خمسة عشر يومًا. وفيما مقياس الحرارة كان يبقى تحت الصّفر، كانت الشّوارع والأشجار والمنازل مكسيّة بحلّة بيضاء، خارقة. لا أحد يجرؤ على الخروج من منزله، إلاّ لحاجات قاهرة. ميلاد حزين بالعموم.

كان خوسه إسكريفا قد وجد عملاً في لوغرونيو، كموظّف في مؤسّسة كتلك الّتي كان يملكها. وكانت العائلة قد جاءت واستقرّت في هذه المدينة. إنّ ترك بربسترو (Barbastro) لم يكن سهلاً على أحد منهم، بخاصّة على خوسيماريّا، وهو على عتبة المراهقة. ذات يوم، وفيما كان الشّابّ غارقًا في التّحديق في وشاح الثّلج ذاك، وقعت عيناه على آثار أقدام عارية، ذات حجم كبير، رسمتها هذه الأخيرة في الشّارع. ففهم سريعًا أنّها خطوات راهب كرمليّ، وقد وصل حديثًا إلى المدينة. وراح يفكّر: إذا كان آخرون يقدّمون هكذا تضحيات في سبيل الله والآخر، ألست قادرًا على تقدمة شيء ما له ؟ إنّها فكرة لم تعد تفارقه مذّاك.

لوغرونيو

"رغمًا عنّي، لقد هيّأني السّيّد شيئًا فشيئًا، من خلال أحداث لا قيمة لها ظاهريًّا، مستخدمًا إيّاها ليولج في نفسي قلقًا إلهيًّا. لهذا السّبب فهمت جيّدًا الحبّ البشريّ والإلهيّ على السّواء، الخاصّ بتريز الطّفل يسوع، الّتي تتأثّر لدى رؤيتها، بارزة من كتاب، صورة ليد المخلّص الجريحة. لقد جرى لي أيضًا أشياء من هذا القبيل، هزّتني وقادتني إلى المناولة اليوميّة وإلى التّنقية وإلى الاعتراف... والنّدامة".

"القلق الإلهيّ ليس فقط عاطفة روحيّة أو شوقًا غامضًا لاتّخاذ الإيمان بجدّيّة". بدأت أتحسّس الحبّ، وأتيقّن من أنّ القلب يريدني لأمر ذي جلل، يتناسب وموضوع الحبّ (...) لم أكن أعرف ما كان ينتظره الله منّي. لكن ذاك كان، بكلّ وضوح، إختيارًا.

قرر أن يصبح كاهنا

ما العمل؟ الصّلاة، طبعًا. أن يسأل الله بأن ينير قلبه. راح خوسيماريّا حينها يستعمل كصلاة موجزة متواترة كلمات الأعمى في الإنجيل: "ياربّ، أن أبصر!" سيّدي دعني أرى ما تبغيه منّي. وكانت حياة الطّالب الثّانوي تدرج سيرها الطّبيعيّ. كان خوسيماريّا قد بدأ البكالوريا، المدرسة الإبتدائيّة والثّانويّة، حينها موحّدتان، عندما كان يقطن في بربسترو: كان يتردّد إلى مؤسّسة الإخوة للمدارس التّقيّة.

القديس خوسيماريا مع شقيقه سانتياغو وشقيقته كارمن

في لوغرونيو، كان قد تسجّل في المدرسة الرّسميّة، وكان يذهب للدّرس بعد الظّهر في معهد القدّيس أنطونيوس. كان تلميذًا لامعًا، ذا علامات باهرة. ويحلم أن يصبح مهندسًا.

ولكن كيف التّوفيق بين هذا المشروع ونداء الله؟ ويا ليته عرف ما هو هذا النّداء؟ ومع ذلك لم يتردّد بالإجابة بنعم. "نعم" لكلّ ما يطلبه الله منه. وقال بنفسه إنّه سيكون أكثر استعدادًا وأكثر منفعة لهذه الدّعوة، المجهولة حتّى الآن، إذا ما أصبح كاهنًا. "ذات يوم، قلت لأبي إنّي أريد أن أصبح كاهنًا: كانت تلك المرّة الأولى الّتي رأيته فيها يبكي. كان في رأسه مشاريع أخرى، لكنّه لم ينتفض. بل قال لي: يا بني، إفتكر بذلك جيّدًا. على الكهنة أن يكونوا قدّيسين... إنّه لمن الصّعب أن لا يكون للمرء منزل ولا عائلة، ولا حبّ أرضيّ. إفتكر بذلك بعدُ قليلاً، لكنّي لن أعارض.

فنصحه بأن يتكلّم في الموضوع مع كاهن، الّذي بدوره استقبل الشّابّ بفرح، وأكّد للوالد دعوة ابنه. كان حينها خوسيماريّا على وشك الانتهاء من دروسه الثّانويّة. وبما أنّه قد عدل الآن عن دخول كليّة الهندسة، نصحه والده بأن يتسجّل في الحقوق، وأن يماشي بين دروسه المدنيّة وارتباطاته في الإكليريكيّة. لقد استعان الرّبّ بالمثال الأبويّ، ليضع في قلب خوسيماريّا قناعة نقلها إلى الجميع طوال حياته: "إذا ما طلب الله من الأهل أولادهم، فليس هذا تضحية من قبلهم ؛ وليس بالأكثر تضحية بالنّسبة للّذين يدعوهم الله. إنّه على العكس، شرف كبير، وسبب لافتخار سام ومقدّس، وعلامة تفضيل وعاطفة خاصّة، أظهرهما الله في وقت ما، وقد كانتا في روحه منذ الأزل.