بين الألم والرجاء: صحافي يروي عن يومين لا يُمحيان من الذاكرة

فرنسوا غزافيه الجميل، صحافيّ ينقل إلينا في هذا المقال شهادة حيّة نابعة من تجربة شخصيّة عميقة. فقد عاش عن قرب لقاء البابا لاون الرابع عشر خلال زيارته إلى لبنان، واختبر ما حمله هذا الحدث من أبعاد روحيّة وإنسانيّة ورسائل رجاء. ومن خلال كلماته، يدعونا الكاتب إلى مرافقة هذه اللحظات كما رآها وعايشها، لا بوصفها مجرّد حدث عابر، بل كخبرة تركت أثرها في القلب والفكر.

في زمن يخيّم عليه القلق، وسماء مشبعة بدخان الحرب، وشعب يبحث عن نافذة تشرق منها نسمة رجاء، جاء البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان. لم يأتِ كرئيس دولة فقط، ولا كقائد روحي يزور كنيسة من كنائسه، بل أتى كأبٍ يدخل بيتًا منكسرًا ليقول له: "لم أنسَكم ولم يتخلَّ المسيح عنكم".

من 30 تشرين الثاني حتى 2 كانون الأول، عاش لبنان ثلاثة أيام خارجة عن المألوف. أيام تعانق فيها البُعد الروحي بالواقع السياسي، واختلطت فيها دموع الألم بدموع الفرح، وكأنه البابا حمل معه شيئًا من وجه المسيح القائم ووضعه على جروح هذا البلد.

كصحافي مسيحي، كاثوليكي، ماروني، وتلميذ صغير في مدرسة يسوع المسيح، كنت من الذين رافقوا هذه الزيارة لحظة بلحظة: في الاستقبال الرسمي، في القصر، في الصرح البطريركي في بكركي، في اللقاءات مع القيادات ومع الرؤساء الثلاثة ومع الدبلوماسيين ورؤساء الكنائس والمطارنة ورؤساء الأديان الغير المسيحيّة، لكن قبل كلّ شيء، كان قلبي يبحث عن معنى جديد لوطن عطشان من التعاطف والعزاء.

فرنسوا غزافيه وزوجته لمى في القداس الإلهي مع البابا لاون الرابع عشر

سألت نفسي وأنا أواكبُ زيارة قداسة الحبر الأعظم، كيف لبلدٍ مثخن بالفساد، منهك بالفوضى محاصر بصراعات أكبر منه أن ينهض مجدداً؟ وكأن الجواب كان يمشي أمامي بعباءته البيضاء: الرجاء. فقط الرجاء.

"ليكن لبنان مكانًا يتحدّث فيه شعب بصوت واحد: صوت السلام"

في القصر الجمهوري كلمات تقرع أبواب الدولة، لقاء البابا مع الرؤساء الثلاثة لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي. كان درسا في الحكم، في المسؤولية، في الضمير. قال لهم، بلغة غير مباشرة ولكنها صريحة: لبنان ليس مزرعة. وليس ورقة في يد القوى الإقليمية. لبنان رسالة، كما قال البابا يوحنا بولس الثاني، وهي رسالة مهددة بالضياع إن لم تُحمَ.
شعرت أنني لست صحافيًا تلك اللحظة بل شاهدًا على حوار بين الأبناء الضالين والأب الذي يدعوهم إلى العودة.

قال قداسة البابا لاون الرابع عشر لنا جميعًا: "ليكن لبنان مكانًا يتحدّث فيه شعب بصوت واحد: صوت السلام". كنت أسمعه، وأسمع في داخلي صوتًا آخر: "الوحدة ليست حلمًا. الوحدة ضرورة".

في اليوم الأخير، التقى 120 ألف قلب يصلّون خلال القداس الكبير. في ذلك اليوم نلت نعمة أن أرى البابا وجهًا لوجه. وقد مرّ أمامي مرتين في سيارته البابوية. كان المشهد أقرب إلى لوحة سماوية.

الأعلام ترفرف، الصلوات ترتفع، وجوه رجال ونساء من كل الأعمار تنظر نحو المنصة كمن ينتظر شيئًا فوق طبيعي.

كانت تلك الثواني كافية لتعيد ترتيب داخلي المبعثر، لتعيد تنشيط إيماني المنهك بفعل الأخبار اليومية، لتعيد إليّ الثقة بأن السماء لا تزال تتابع هذا الوطن.

في هذا البحر من المؤمنين، مرّ البابا أمامي مرتين. لا أعرف كيف أشرح.
لم تكن لحظة مشاهدة شخصية، بل لحظة زيارة إلهية صغيرة. شعرت أن المسيح يمر في شخص يرعاه، ويقول لي وللكثيرين: "أنا هنا. وأنت لست وحدك".

كانت تلك الثواني كافية لتعيد ترتيب داخلي المبعثر، لتعيد تنشيط إيماني المنهك بفعل الأخبار اليومية، لتعيد إليّ الثقة بأن السماء لا تزال تتابع هذا الوطن.

في عظاته، في أحاديثه، في نظراته، حمل البابا ثلاث رسائل واضحة، ترددت في قلبي كما يتردد صدى جرس كنيسة:

  1. الشجاعة
    لأن المسيحي، ولأن اللبناني، لا يمكنه الاستسلام. قال لنا: كونوا شجعاء، حتى عندما تخافون. وما أجمل هذه المفارقة: الشجاعة وسط الخوف، النور وسط الظلمة.
  2. الوحدة
    الانقسام يقتل. السياسة تُنهك. الطائفية تُدمّر. لكن أبناء البيت الواحد بحاجة إلى بعضهم. لبنان لا يُبنى بالأحزاب والسلاح، بل بالتضامن والرحمة.
  3. الرجاء
    ليس رجاءً عاديًا، بل رجاءً فاعلًا، يقاوم اليأس كما يقاوم الجنديّ العدو. صوت يقول لنا: "الله معكم وأنا معكم فلا تيأسوا".

كصحافي وجدت نفسي أصلّي بدل أن أكتب. لأول مرة منذ بداية عملي، شعرت بأن الصحافة ليست نقل حقيقة فقط، بل حمل حقيقة. أحسست أن عملي بدأ يتحول إلى صلاة، وأنني أصبحت وسيلة لالتقاط لحظات نعمة، لا مجرد أخبار.

كنت أكتب عن البابا، لكنني في العمق كنت أكتب عن اختبار داخلي، عن انكسار وشفاء، عن خوف ورجاء.

ثم...

غادر البابا لبنان. انطفأت أصوات المواكب. عادت السياسة إلى طريقتها الصاخبة والقاتمة. وعاد البلد إلى واقعه المثقل. لكن شيئًا ما بقي. شعلة صغيرة. شعلة قالها البابا وأحسستها تمرّ أمامي مرتين.
"لا تدعوا الظلام ينتصر. أنتم نور هذا البلد".

الانقسام يقتل. السياسة تُنهك. الطائفية تُدمّر. لكن أبناء البيت الواحد بحاجة إلى بعضهم.

وهذه الشعلة هي الآن أمانة في قلبي كصحافي، كمؤمن، كمواطن. وأمانة في قلب كل من رآه، أو سمعه، أو شعر به. لبنان المصلوب ألف مرة، القائم ألف مرة، يملك اليوم سببًا صغيرًا ليقول: "ما زال هناك رجاء".