هكذا ثبّتت كتابات القديس خوسيماريا قناعات الأب سركيس الكهنوتيّة

لم يكن لقاء الأب فادي سركيس بالـ"أوبُس داي" صدفةً، إنّما قد جاء ليثبّت قناعاته وقيمه المسيحيّة التي نشأ عليها في كنف عائلته منذ الصبى. هذا ما أكّده لنا في حديث شاركنا من خلاله في مسيرة حياته الكهنوتيّة وفي كيفيّة تعرّفه على "شخصيّة القديس خوسيماريّا الكهنوتيّة المميزة".

نشأ الخوري فادي سركيس في مزموره وهي قرية صغيرة من قرى الشوف في إقليم الخرّوب، قرب دير المخلص-جون، في كنف عائلة مسيحيّة مؤلّفة من 3 شباب وفتاة. منذ الصغر، كان يشعر بأن الله يقود مسيرته الإنسانيّة الشخصيّة، وقد حدّثنا عن بعض الأمور المحوريّة التي أدّت به إلى تلبية دعوته ككاهنٍ أبرشيّ في خضمّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة:

راعٍ بين الناس

"منذ الطفولة، كانت تستهويني الحياة مع يسوع، وفي يوم المناولة الأولى كان لدي لقاء مميز ومحوريّ بامتياز معه. ومنذ ذلك اليوم بِتُّ متعلقًا في عمق كياني بالقربان المقدّس، ولا أذكر أنّي تخلّيت عن المشاركة في القدّاس يوم الأحد إطلاقاً. وكنت مع أفراد العائلةملتزمين في الحياة الكنسيّة الرعائيّة.

ولما بلغت ١٠سنوات تعرّضت لحادث كاد يودي بحياتي، كما كاد الأطباء يفقدون الأمل بالشفاء أو بالحياة بعد أن قاموا بكلّ ما بوسعهم. وبقيت في حالة غيبوبة لمدّة أسبوع ثمّ استيقظت من بعدها على وقع قرع أجراس. وعندما بلغت الرابعة عشرة من العمر، وكنّا في العائلة نحتفل بالمناولة الأولى لشقيقي الصغير، قال حينها أحد الأنسباء لوالدتي: من كان ليقول أن فادي سيكون بيننا اليوم، لا شكّ بأن الربّ يريد أمرًا ما منه. وعندما سمعت هذا، بدأت أتساءل وأبحث. تأثرت بسيرة حياة القديس فرنسيس الأسيزي، وقررت يومها السير بدعوةٍ ما".

هكذا، بدأت رحلة الأب فادي في البحث عن دعوته،فتوجّه إلى المدرسة الإكليريكيّة البطريركيّة في غزير ، وانتسب

اكتشفت دعوتي... وهي أن أكون راعيًا بين الناس

إليها كطالب إكليريكي. وقد اعتبر نفسه مدينًا بدعوته هذه إلى صلوات إحدى راهبات القلبين الأقدسين، الأخت ماري غوستاف، التي كانت تزور بعض الرعايا التابعة لأبرشيّة صيدا المارونيّة في الشوف للصلاة من أجل الدعوات الكهنوتيّة والمكرّسة على مدى ٣٠ سنة. وحيث مرّت تلك الراهبة ، زرعتكاهنًا بحسب ما أخبرنا الأب سركيس.

وكغالبيّة طلاب الكهنوت، طُرحت أمامه مسألة الزواج أو الإستمرار في البتوليّة، فطلب سنة للتفكير مليّا في هذا الموضوع. وفي تلك السنة، اختبر "أهميّة التفرّغ لخدمة الرعيّة"، وذلك على أثر التهجير الكبير الّذي لحق بمنطقة الشوف، ولم يكن برفقة الأهالي أي مسؤول مدني أو كنسي". في تلك السنة، اختبر الأب سركيس "خبرات رائعة جدًا"، قرر بعدها "العودة والإنسكاب في حياة الإكليريكيّة من جديد والإنطلاق بقناعة وثبات نحو الخدمة الكهنوتيّة ككاهن بتول"، وكان عمرهيومها ٢٣ سنة.

وبعد ختام الدروس رُسم شمّاسًا في ٢٨ حزيران ١٩٨٨، وكاهنًا في الأوّل من تشرين الأول ١٩٨٨،بوضع يد المطران ابراهيم الحلو راعي أبرشيّة صيدا المارونيّة آنذاك. واحتفل بقدّاسه الأوّل في ٢ تشرين الأوّل ١٩٨٨وقد اكتشفت لاحقًا أن هذا التاريخ يصادف ذكرىتأسيس الـ"أوبس داي".

الأب فادي سركيس مع عدد من الشباب في سهرة إنجيليّة في صالون كنيسة رعيته في بعبدا

كاهنٌ شاب: يُخطف فيُحرّر، فينصبّ في الخدمة

لم تكن خدمة الكاهن الشاب لرعيّته عمليّة سهلة، فقد كان لبنان يعيش أواخر سنوات الحرب. وها هو الأب فادي سركيس بعد أشهرٍ قليلة من انطلاقة خدمته الكهنوتيّة يتعرّض لعمليّة خطف في تموز ١٩٨٩على يد مسلّحين، وبعد ما جرى معه حينها، قال الأب سركيس: "فكّرت بداية أن الربيريد مني أن أعيش فقط ٩ أشهر حياتي ككاهن في خدمة الكنيسة، فشكرته عليها ورحت أنتظر الختام. وتابع الأب سركيس بقوله : لقد كنت كاهناً شابًا متحمّساً وفي بدايات خدمتي الكهنوتيّة، وما كان الجوار الشيعي في منطقة الزهراني حيث باشرت خدمتي الكهنوتيّة معتاداً على كاهنٍ يقوم بنشاطات مع العائلات والشبيبة والأطفال. وبعد أن احتجزوني على مدى ٩ ساعات حرروني، فعدت إلى مزاولة عملي الكهنوتي كالمعتاد في الرعايا الّتي أوكلت إليّ خدمتها. حينها، قال لي والدي: لا أريدك أن تعود من جديد إلى تلك المنطقة؟ فالإنسان العاقل يُجرّب مرّة واحدة، أما والدتي فقالت لي: لا يا بني بل اذهب والله يوفّقك ويحميك، ولكن لا تعرّض نفسك للخطر ولا تترك الناس هناك، لأنهم بحاجة إليك".

وتابع خدمته في الرعايا الّتي أوكلت خدمتها إليه سابقاً على مدى ثلاث سنوات. سافر بعدها إلى فرنسا لمتابعة دروسه والتخصّص في اللاهوت الراعوي، وخدم هناك في رعيّة سيدة لبنان في باريس. ومن ثم عاد إلى أبرشيّة صيدا المارونيّة فعُيّن أميناً عامّاً للأبرشيّة. حتّى سنة ٢٠٠٦، حيث انتقل إلى أبرشيّة بيروت بعد حصوله على إذن من مطرانه وها هو اليوم يقوم بخدمة رعيّة مار أنطونيوس الكبير في الرميلة - الشوف التابعة لأبرشيّة صيدا المارونيّة ويؤمن خدمة التعليم المسيحي للصفوف الثانويّة في مدرسة الحكمة - برازيليا بعبدا، بعد أن قام لسنوات ثمانية خلت بخدمة تنسيق التنشئة المسيحيّة في مدارس الحكمة.

لقاؤه بالـ"أوبس داي" و"الاكتشافات العظيمة"

"تعرّفت على الـ"أوبس داي" قبل وصولها إلى لبنان، عندما أخبرني عنها نسيب لي يقيم في إيطاليا، وكان قد عاد إلى لبنان لتمضيّة العطلة الصيفيّة عام ١٩٨٦ وكان قد تابع نشاطات حبريّة " عمل الله " هناك. وعند وصول أول أعضائها إلى لبنان، وخلال صيف ١٩٩٨ أتت مجموعة من الشبيبة الإسبانيّة إلى بلدتي مزموره للمشاركة في أعمال إعادة بناء كنيسة البلدة التي كنت أقوم بخدمتها آنذاك. فساهموافي ورشة بنائها على مدى ١٠ أيّام.

بعد ذلك كان أحد كهنة حبريّة الـ"أوبس داي" يزور مطران أبرشيّة صيدا المارونيّة آنذاك سيادة المطران طانيوس الخوري وبشكلٍ دوري ، وكان يضع على مكتبي صوراً خاصّة بالقديس خوسيماريا فكنت أوضّبها وأضعها في جارورالمطران.

وبعد ٩ سنوات، عندما بدأت خدمتي في أبرشية بيروت، اتصل بي ذلك الكاهن، وقال لي: "لقد عرفت أنك أصبحت في بيروت فيجب علينا أن نلتقي". فقام بزيارتي في المدرسة وتحدّثنا.من ثمّ التيقنا مرّات أخرى بين الحين والآخر. وفي إحد الأيام طلب مني أن أصحّح مقدمة كتاب " عندما يمرّ المسيح " للقديس خوسيماريا. فوافقت على ذلك، ومن ثم طلب منّي تصحيح الفصل الأول من الكتاب المشار إليه، ووافقت أيضاً، ومن ثم عرض علي تصحيح الكتاب بأسره، فلم أعارض لأننا كنا على أبواب الصيف".

القديس خوسيماريا شخصيّة كهنوتيّة أنارت الكنيسة بأنوارٍ كبيرة

وخلال قراءته لذاك الكتاب، اكتشف الأب سركيس "اكتشافات عظيمة" كما قال لنا، وتعرّف على "شخصية كهنوتيّة مميزة، وهي شخصية القديس خوسيماريا؛ ذاك الكاهن القدّيس الذي أنار الكنيسة بأنوارٍ كبيرة على مستوى القداسة في الحياة العاديّة". وتابع شارحًا: "لقد قام قديسون كثر بأمورٍ كبيرة وأناروا الكنيسة أيضًا، إنما القدّيس خوسيماريّا فقد تميّز بدعوة النفوس إلى تقديس حياتهم العاديّة. هذا هو الأمر الفائق الوصف الذي أشرق في حياتي الشخصية وعبّر عمّا كنت أؤمن به. خوسيماريا ثبّت فيّ قناعات كثيرة كنت أمارسها وأعجب فيها غير أنّي كنت أعتقد بأنها خاصّة بروحانيّتي. ولكن، عندما تعرّفت إلى القدّيس خوسيماريّا، رأيت أن كاهنًا قديسًا يعيش ويعلّم تلك الروحانيّة البسيطة والمثمرة على المدى القريب والبعيد، حينها أضحت ثوابت لديًوانطلقت من جديد إلى الأمام مع الرب على نهج قدّيس الحياة العاديّة القدّيسخوسيماريّا ". ومن بين تلك الممارسات التي تثبّتت في حياة الأب سركيس، نجد "محورية القربان وصلاة المسبحة، أهمية الرياضة الروحية الشهرية، القراءة الروحية، تنظيم الحياة، الإعتراف... وتلك أمور رائعة تساعد النفوس على السير بوضوح في الحياة لا في ضياع".

ساعدته هذه الروحانيّة في حياته الكهنوتية وأدّت به إلى الإنضمام إلى جمعية الصليب المقدّس الكهنوتية، المرتبطة ارتباطًا عضويًا بالـ"أوبس داي". وأشار في هذا الإطار إلى أن "هذه الجمعيّة أعطتني دفعًا لحياتي الكهنوتية التي ما زلت اليوم أمارسها في أبرشيّة بيروت".

ويلخّص لقاءه بالـ"أوبس داي" بالكلمات التالية: "كان هناك صورة في البداية، وتلك المقدمة، والفصل الأول ومن ثمّ "غطست" و"الغطسة" كانت رائعة جدًا، إذ إنني وجدت ذاك الإستسلام البنوي الفائق الوصف لإرادة الله، وانتسبت إلى هذه الجماعة الكهنوتيّة التي تتمتّع بهذا البُعد الكهنوتي الصافي : إنّي أعتبر معرفتي للقدّيس خوسيماريا "كرؤية الذات في المرآة".

"عندما أنظر إلى بعض الأمور في حياة القديس خوسيماريا أشعر وكأنني أرى نفسي في المرآة". وفي الواقع تجمعه بحياة القديس المؤسس تفاصيل كثيرة من بينها، تعرضه لحادث في صغره كاد يودي بحياته، ومحورية المناولة الأولى في حياته، ونصيحته بوضع الصليب وصورة لمريم وصورة للشفيع على طاولة العمل، ومحبته لمريم وللقربان التي هي محور حياة كلمسيحي ، والتعامل مع الناس بكِبَر: "لذلك نجد القدّيس خوسيماريّا يحمل هموم المجتمع وفي الوقت نفسه نجده متجرّداً وغير طامع بشيء، والبرهان يكمن في الصعوبات المادية التي عانت منها الحبريّة في بداية مسيرتها". ونقطة أخرى تجمعه به هي الدقّة، بحسب ما أكّد لنا: "فالدقة تظهر في كتاباته إذ يدخل إلى التفاصيل ولا يبقى في العموميات تلك هي الدعوة الفائقة الطبيعة الّتي أكّدت لي قناعاتي حول الدقة في الأمور الصغيرة كما الدقة في الأمور الكبيرة ". والذروة كانت بالنسبة إليه في اكتشافاته الروحيّة برففة القدّيس خوسيماريّا أحدى نقاط التأمل في كتاب "خط المسيرة": "من أراد أن يتبع يسوع عليه أن يكون إنسانًا وقربانًا"، هذا بالنسبة إليّ هو كحبّة الفريز الّتي توجت رأس قالب الحلوى".