ألقدِّيسَةُ العَذْرَاءُ، سَبَبُ سُرُورِنَا

عظة ألقاها القديس خوسيماريا بمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء بالنفس والجسد في 15 آب عام 1961.

"لقد رُفِعت مريم إلى السّماء، فابتهجت الملاكة"[1]. إنّ البهجة تعمّ الملائكة والبشر لأنّ الله نقل العذراء مريم إلى السّماء، بالنّفس والجسد. لماذا نشعر اليوم بـهذا الفرح العميق الّذي يجعل قلبنا بادياً وكأنّه يرتكض في صدرنا، ونفسنا يغمرها السّلام؟ ذاك أنّنا نحتفل بتمجيد أمّنا، فمن الطّبيعيّ أن نغتبط بنوع خاصّ نحن الأولاد، لرؤية كيفيّة تكريم الثّالوث الأقدس لها.

فإنّ المسيح، إبنها الكلّي القداسة وأخانا، وهبنا إيّاها أمًّا على الجلجلة، قائلاً للقدّيس يوحنّا: "هذه أمّك"[2]. فاقتبلنا القدّيسة مريم مع التّلميذ الحبيب، في ساعة الحزن الشّديد تلك، وقبلتنا هي في الألم، فيما تتمّ النّبؤة القديمة: "وأنت سينفُذ سيف في نفسك ..."[3] نحن جميعًا أولادها؛ إنّها أمّ البشريّة جمعاء. والآن تحتفل البشريّة بذكرى صعودها الفائق الوصف: مريم، إبنة الله الآب، ووالدة الله الابن، وعروسة الله الرّوح القدس، تصعد إلى السّماء. حيث فوقها، لا يوجد إلاّ الله، والله وحده.

سِرُّ الحُبِّ

إنّه سرّ الحبّ. إذ لا يمكن أن يفهمه العقل البشريّ. وحده الإيمان يستطيع أن يفسّر كيف أنّ خليقة استطاعت أن ترقى إلى منـزلة كهذه، وأن تصبح موضوع عجب الثّالوث المحبّب. نحن نعلم أنّ ذاك هو السّرّ الإلهيّ. لكن، بما أنّ الأمر يعني أمّنا، نجد – إذا استطعنا القول – سهولة أكثر في فهم حقيقة الإيمان هذه من سواها.

فماذا نفعل لو كان باستطاعتنا أن نختار أمّنا؟ أعتقد أنّنا كنّا انتخبنا تلك الّتي لنا، وكنّا غمرناها بكلّ المكارم. هذا ما فعله المسيح؛ بقدرته اللاّمتناهية، وبحبّه وحكمته غير المحدودة[4]، قد استطاع أن يتمّم كلّ ما أراد.

أنظروا كيف اكتشف المسيحيّون، منذ زمن طويل، هذا التّفكير: كان يجب – كتب القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ – أن تلك الّتي أبقت بكريّتها سليمة في الولادة، أن يُحْفَظَ جسدها منـزّهًا عن كلّ فساد بعد الموت. وكان يُفتَرَضُ أنّ تلك الّتي حملت في حشاها، الخالق طفلاً، أن تحلّ في الزّرع الإلهيّ. كان مفترضًا أن تدخل عروس الله إلى البيت السّماويّ. وكان يجب أنّ تلك الّتي رأت إبنها على الصّليب وتلقّت في قلبها الألم الّذي أُعْفيَتْ منه إبّان الولادة، أن تعاين هذا الابن جالسًا عن يمين الله الآب. لذلك ينبغي أن تمتلك أمّ الله ما يعود إلى ابنها، وأن تُكرِّمها كلّ الخلائق كأمّ وخادمة لله[5].

لقد قدّم اللاّهوتيّون غير مرّة، حجّة مماثلة ليشرحوا، قدر الإمكان، معنى فيض النّعم هذا الّذي تتحلّى به مريم، وأنّ صعودها إلى السّماء يكوّن التّمام. فيؤكّدون: "هكذا وجَبَ، والله قادر على صنعه، ففعل"[6]. لا يمكننا أن نشرح بطريقة أكثر وضوحًا لماذا أغدق الرّبّ على أمّه، منذ اللّحظة الأولى لحبلها بلا دنس، كلّ الامتيازات. لقد حُفِظَتْ من سلطة الشّيطان؛ إنّها جميلة – كاملة النّقاء – ناصعة، نقيّة نفسًا وجسدًا.

سِرُّ التَّضْحِيَةِ الصَّامِتَةِ

إنّما لاحظوا أنّ الله رغم أنّه أراد أن يمجّد أمّه، لم تُعْفَ مريم طوال حياتـها الأرضيّة من الألم، والتّعب، وشكوك الإيمان. لقد أجاب الرّبّ باندهاش، تلك المرأة الّتي أطلقت المدائح يومًا ليسوع هاتفة: "طوبى للبطن الّذي حملك وللثّديين اللّذين أرضعاك"[7]، "بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها!" كان هذا مديحا لوالدته، على جوابـها - "فليكن ذلك" – وقبولها[8]، الصّادق، والسّخي، وغير المحدود، ألّذي يظهر لا بأعمال بيّنة، بل بتضحية يوميّة، صامتة وخفيّة.

بتأمّلنا لـهذه الحقائق، نفهم بطريقة أفضل منطق الله؛ نستخلص أنّه ليس بالأعمال العسكريّة الكبرى الّتي نقوم بـها، أو نتخيّلها أحيانًا، تُعطى حياتنا قيمة فائقة الطّبيعة، بل بالقبول الأمين للمشيئة الإلهيّة والسّخاء في التّضحية اليوميّة.

فإذا كنّا نريد أن نغدو "إلـهيّين"، وإذا كنّا نريد أن نرتدي من ملء الله، ينبعي أن نبدأ بأن نكون بشريّين جدًّا، بتحمّلنا وضعنا كأناس عاديّين تجاهه، وتقديس صِغَرنا الظّاهر. هكذا عاشت مريم. تلك الممتلئة نعمًا، من هي موضوع كلّ إنعامات الله، لقد عاشت حياة عاديّة تلك الّتي أُجلِست فوق الملائكة والقدّيسين. فمريم هي خليقة على مثالنا، بقلب كقلبنا، قابل للأفراح والبهجة، للآلام والدّموع. قبل أن يعلمها جبرائيل بإرادة الله، كانت تجهل أنّها اختيرت منذ الأزل لتكون أمّ المسيح. فتعتبر نفسها وضيعة من سواد النّاس[9]: لذلك فهي تقرّ لاحقًا، بتواضع عميق أنّ "القدير صنع إليّ أمورًا عظيمة"[10].

يا للتّباين بين طهارة، وتواضع وكرم مريم، وبين حقارتنا وأنانيّتنا. من الطّبيعي، بعد اكتشافها، أن يحدونا الشّوق لتقليدها؛ نحن خلائق الله، مثلها، ويكفي بأن يكون جهدنا صادقًا كي يحقّق الرّبّ، فينا أيضًا، أمورًا كبرى. لن يكون صغرنا عائقًا: إذ يختار الله ما هو بخس الثّمن، كيما تتفجّر هكذا وبفيض عظمة حبّه[11].

أَلتَّشَبُّهُ بِمَريمَ

أمّنا هي مثال الجواب على النّعمة. فإذا ما تأمّلنا حياتـها، سوف ينيرنا الرّبّ كيما نعرف كيف نؤلّه وجودنا العاديّ. على ممرّ السّنة، وغالبًا يوميًّا، فيما نحتفل نحن المسيحيّين بالأعياد المريميّة، نفكّر بالعذراء. فإذا ما استفدنا من هذه اللّحظات لنتخيّل تصرّف أمّنا، في هذه الأعمال المناطة بنا، سوف نقلّد مَثَلَها شيئًا فشيئًا، وننتهي بالتّشبّه بـها، كما يتشبّه الأولاد بأمّهم.

لنبدأ بالتّشبّه بحبّها. فالمحبّة لا تقتصر على العواطف، بل يجب أن تظهر بالكلام وقبل كلّ شيء بالأعمال. إذ إنّ العذراء لم تعلن فقط قبولـها إنّما أتمّت، في كلّ حين، قرارها الحازم والنّهائيّ. فعلينا أن نتصرّف بالمثل: عندما يدفعنا حبّ الله ونكتشف إرادته، علينا أن نلتزم بأن نكون أوفياء، صادقين حقّاً . "ليس من يقول لي يا ربّ، يا ربّ يدخل ملكوت السّماوات، بل من يعمل بمشيئة أبي الّذي في السّماوات"[12].

لذلك ينبغي أن نقلّد لباقة مريم الطّبيعيّة والفائقة الطّبيعة. إنّها خليقة مميّزة في تاريخ الخلاص: فيها "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا"[13]. كانت شاهدة كلّها رقّة وقد عاشت في الخفاء : لم ترد أن تتلقّى المدائح، إذ لم تكن تبغي المجد لنفسها. مريم هي شاهدة أسرار طفولة ابنها، الأسرار العاديّة إذا أمكننا التّعبير هكذا : فأمام المعجزات الكبرى وهتافات الجماهير كانت تختفي. في أورشليم، عندما كان المسيح – راكبًا جحشًا صغيرًا – يُحتفَى به كملك، لم تكن مريم هناك. لكنّنا نجدها قرب الصّليب، عندما هرب الجميع. هذا التصرّف له نكهة طبيعيّة خاصّة بعظمة وعمق وقداسة نفسها.

فلنسعَ إلى التّشبّه بطاعتها لمشيئة الله، طاعة يمتزج فيها بطريقة متناغمة النّبل والخضوع. إذ لا شيء يذكّر عند مريم موقف تلك العذارى الطائشات اللّواتي أطعن، بالفعل، إنّما دون تفكير. فالعذراء مريم تصغي بانتباه إلى ما يريده منها الله. إنّها تتأمّل في ما لا تفهمه. إنّها تسأل عمّا لا تعرفه. ثمّ تندفع بكلّ كيانـها لإتمام المشيئة الإلهيّة: "إنّي أمة الرّبّ؛ فليكن لي حسب قولك!"[14]. يا للرّوعة! ألقدّيسة مريم، مثالنا في كلّ شيء، تعلّمنا الآن أنّ طاعة الله ليست عبوديّة، ولا تُخضِع ضميرنا. بل تحثّنا باطنيًّا على أن نكتشف "حرّيّة أبناء الله"[15].

مَدْرَسَةُ صَلاةٍ

لا بدّ أنّ الرّبّ قد أعطاكم أن تكتشفوا مظاهر أخرى لهذا الجواب الأمين للعذراء الكلّيّة القداسة؛ مظاهر تطلّ علينا عفويًّا وتدعونا لاتّخاذها مثالاً: طهارتـها، وتواضعها، وقوّة طبعها، وكرمها، وإخلاصها ... وإنّي أودّ أن أكلمكم عن واحدة منها، تحويها كلّها، إذ هي شرط للتّقدّم الرّوحيّ: حياة صلاة.

فإذا أردنا أن نستفيد من النّعم الّتي تغدقها علينا أمّنا اليوم، وأن نتبع في كلّ آن إلهامات الرّوح القدس، راعي نفوسنا، علينا أن نتعلّق جدّيًّا بتطوير حياتنا الحميمة مع الله. إذ إنّنا لا نستطيع أن نتستّر بالخفاء. والحياة الباطنة إذا لم تكن لقاء شخصيًّا مع الله، فهي غير موجودة. فالسّطحيّة لا تمتّ إلى المسيحيّة بصلة. والقبول بالجمود في المقاومة النّسكيّة، يعني توقيع قرار إعدام النّفس المتأمّلة. إنّ الله يسأل عنّا واحدًا فواحدًا وعلينا أن نجيبه واحدًا تلو الآخر: "هاءنذا، إنّك دعوتني"[16].

نحن نعلم أنّ الصّلاة تعني الحديث مع الله؛ لكن عن ماذا، رُبّما نسأل عن أمور الله، وعن تلك الّتي تملأ نـهارنا؟ عن ولادة يسوع، عن مسيرته على الأرض، عن آلامه المحيية، عن صليبه وعن قيامته. ثمّ، في حضرة الله الواحد المثلّث الأقانيم، وبشفاعة القدّيسة مريم والقدّيس يوسف، أبينا وسيّدنا – من أحبّ وأحترم كثيرًا – نتكلّم عن عملنا اليوميّ، عن عائلتنا، عن أصدقائنا، عن مشاريعنا الكبرى وعن حقاراتنا الصّغيرة.

لذلك فموضوع صلاتي هو حياتي. هكذا أبدأ، وعندما أنظر في وضعي، يقفز طبيعيًّا قصد حازم وأكيد: أن أتغيّر، أن أصبح أفضل وأن أكون أكثر مِطواعًا لحبّ الرّبّ. قصد صريح، ملموس، يترافق دائمًا مع طلب مُلحّ، ملؤه الثقة، بالرّوح القدس، لئلاّ يتخلّى عنّا، "فإنّك أنت إله حصني"[17].

نحن مسيحيّون عاديّون، نمارس المهن الأكثر تنوّعًا ؛ نشاطاتنا تسلك طرقًا عاديّة ؛ كلّ شيء يجري حسب إيقاع متوقّع. أيّامنا تبدو متشابـهة كلّها، وكأنّها رتيبة ... هذا صحيح، لكنّ هذه الحياة، الّتي تبدو عاديّة جدًّا، لها قيمة إلـهيّة ؛ إنّها تـهمّ الله، إذ إنّ رغبة المسيح تكمن في أن يتجسّد وسط اهتماماتنا، وينعش أعمالنا الأكثر وضاعة.

تلك هي حقيقة فائقة الطّبيعة، بيّنة وبدون لبْس؛ إنّها مجرّد فكرة هدفها تعزية وتقوية أولئك الّذين لن يتوصّلوا إلى تسجيل أسمائهم في كتاب التّاريخ الذّهبيّ. إنّ المسيح يهتمّ بـهذا العمل الّذي يتوجّب علينا تحقيقه – ألف وألف مرّة – في المكتب، في المصنع، في المشغل، في المدرسة، في الحقول، عندما نمارس مهنة يدويّة أو فكريّة. فالمسيح يهتمّ أيضًا بـهذه التّضحية الخفيّة القاضية بعدم صبّ سمّ مزاجنا السيّئ على الآخرين.

تفكّروا بذلك في الصّلاة. إنتهزوها فرصة لتقولوا ليسوع إنّكم تعبدونه، وهكذا تصبحون تأمّليّين كلّيًّا وسط العالم، وفي ضجيج الشّارع: وفي أيّ مكان. هذه هي الأمثولة الأولى الّتي نستطيع استخلاصها من علاقتنا الحميمة بيسوع المسيح. ومريم هي من بإمكانـها أن تعلّمنا تلك الأمثولة بالطّريقة الفضلى، لأنّ العذراء القدّيسة قد حافظت باستمرار على حالة الإيمان تلك، وعلى الرّؤيا الفائقة الطّبيعة تجاه كلّ من يجري حولها: "كانت تحفظ تلك الأمور كلّها في قلبها"[18].

فلنتوسّل إليها اليوم لكيما تجعلنا تأمّليّين، وتعلّمنا فهم نداءات الرّبّ المستمرّة والمتكرّرة على باب قلبنا. فلنصلّ لـها: أمّاه، لقد جلبتِ لنا يسوع على هذه الأرض، وهو من كشف لنا حبّ الله أبينا؛ ساعدينا على اكتشافه، وسط الإنشغالات اليوميّة العديدة؛ علّمي فكرنا وإرادتنا أن يصغيا إلى صوت الله، وإلى نداءات النّعمة.

مُرَبِّيَةُ رُسُلٍ

لكن لا تفتكروا فقط بأنفسكم: بل أوسعوا قلبكم ليتمكّن من احتواء البشريّة جمعاء. وافتكروا أوّلاً بالّذين يحيطون بكم – بأهلكم، وإخوتكم وأصدقائكم، ورفاقكم – وابحثوا في كيفيّة اجتذابـهم إلى تعميق صداقتهم مع ربّنا. فإذا كانوا مخلصين وشرفاء، وأهلاً للإقتراب أكثر من الله، ضعوهم بطريقة خاصّة تحت حماية السّيّدة العذراء، وصلّوا أيضًا من أجل سائر النّفوس الّتي تعرفونـها، فإنّنا نحن البشر، على المركب نفسه نبحر.

كونوا مستقيمين وكرماء. لإنّنا نؤلّف جسداً واحدًا، جسد المسيح السرّي، جسد الكنيسة المقدّسة، وقد دعي إليها جميع البشر، الّذين يفتّشون عن الحقيقة بإستقامة. لذلك تقع على كاهلنا مسؤوليّة واجب إظهار نوع وعمق محبّة المسيح، للآخرين. فلا يمكن أن يكون المسيحيّ أنانيًّا؛ وإلاّ، فإنّه يخدع دعوته الخاصّة. وإنّ اكتفاء المرء بالحفاظ على نفسه بسلام وعدم الاكتراث بخير الآخرين ليس موقفًا مسيحيًّا، وما هذا إلاّ سلامًا مخادعًا. فإذا كنّا قد رضينا بالتّحديد الحقيقيّ للحياة الإنسانيّة – ألّذي كشفه لنا الإيمان – فلا يعقلُ أن نبقى بسكون، مقتنعين بأنّنا حسنًا نفعل، فيما نحن لا نجهد بطريقة عمليّة وملموسة لتقريب الآخرين من الله.

ففي الحياة الرّسوليّة، يوجد عائق حقيقيّ وهو الإدراك المغلوط للاحترام، والخوف من مقاربة مواضيع روحيّة، لأنّنا نشعر بأنّ محادثة كهذه لا تكون مناسبة في بعض الأوساط، لأنّها قد تثير الحساسيّات. كم مرّة حجبت تلك الأفكار الأنانيّة! إذ ليس المقصود إزعاج كائنٍ من كان، بل بالأحرى خدمته. وعلى الرّغم من عدم جدارتنا، فإنّ النّعمة تجعل منّا أدوات قادرة على خدمة الآخرين، لنقل هذه البشرى الجديدة لـهم: "إنّ الله يريد أن يخلُص جميع النّاس ويبلغوا إلى معرفة الحقّ"[19].

فهل يحقّ لنا التّدخّل في حياة الآخرين بـهذا الأسلوب؟ أجل، وهو أيضًا ضروريّ. فالمسيح تدخّل في حياتنا دون أن يستأذننا! وهذا ما فعله مع التّلاميذ الأوائل: "وكان سائرًا على شاطئ بحر الجليل، فرأى سمعان وأخاه أندراوس يلقيان الشّبكة في البحر، لأنّهما كانا صيّادين، فقال لهما: إتبعاني أجعلكما صيّادَي بشر"[20]. وكلّ فرد يحتفظ بالحرّيّة، تلك الحرّيّة المغلوطة التّي تجيب الله بالنّفي، على مثال ذلك الشّاب الغارق بالثّروات[21]، ألّذي يتحدّث عنه القدّيس لوقا. لكنّ الرّبّ قد أمرنا بذلك بقوله: "إذهبوا في العالم كلّه، وأعلنوا البشارة"[22]، ونحن أيضًا لنا الحقّ وعلينا واجب الحديث عن الله، عن هذا الموضوع الإنساني فيما بيننا، لأنّ الشّوق إلى الله هو أعمق ما في باطن الإنسان.

فيا قدّيسة مريم، "سلطانة الرّسل"، سلطانة جميع الّذين يرغبون بشوق أن يعلنوا حبّ ابنك، أنتِ يا من تفهمين جيّدًا تعاستنا، إسألي الغفران لحياتنا؛ لكلّ ما كان يجب أن يكون فينا شعلة وأضحى رمادًا ؛ لهذا النّور الّذي لم يعد ينير، لهذا الملح الّذي فقد طعمه. يا أمّ الله، أنتِ من تنالين كلّ ما تطلبين، أمنحينا، مع الغفران، القوّة لنعيش حقًّا بالإيمان والحبّ،لننقل إيمان المسيح إلى الآخرين.

وَصْفَةٌ وَحيدَةٌ : أَلقَداسَةُ الشَّخْصيَّةُ

إنّ الطّريقة الفضلى للحفاظ على شجاعتنا الرّسوليّة، وعلى هذا العطش الصّادق لخدمة جميع البشر، ليست سوى أن نملأ حياتنا بالإيمان والرّجاء والمحبّة؛ وبكلمة واحدة، "القداسة". لست أرى وصفة أخرى سوى هذه: القداسة الشّخصيّة.

أليوم، وبالإتّحاد مع كلّ الكنيسة، نحتفل بانتصار إبنة، وأمّ، وعروس الله. كما نفرح، بقيامة الرّبّ، في اليوم الثّالث بعد موته، نغتبط الآن لأنّ مريم، بعد أن رافقت يسوع بنفسها وجسدها، من بيت لحم إلى الصّليب، ها هي إلى جانبه، تتمتّع بالمجد، ألأبديّة كلّها. ذاك هو التّصميم الإلهيّ السرّي: فالعذراء مريم، بحكم مشاركتها الكاملة في مهمّة خلاصنا، كان عليها أن تتبع عن كثب خطى ابنها: فقر بيت لحم، حياة العمل العاديّ الخفيّة في النّاصرة، ظهور الألوهة في قانا الجليل، إهانات الآلام، تضحية الصّليب الإلهيّة، والتّطويب الأبديّ في النّعيم.

كلّ هذا يعنينا مباشرة، إذ إنّ هذا الطّريق الفائق الطّبيعة يجب أن يكون طريقنا أيضًا. مريم ترينا أنّ تلك الدّرب هي سالكة وآمنة. لقد سبقتنا على طريق التّشبّه بالمسيح. فتمجيدها يمثّل بالنّسبة إلينا الرّجاء الأكيد لخلاصنا. فلهذا السّبب نحن ندعوها: "رجاءنا وسبب سرورنا".

لا نستطيع إطلاقًا فقد الثّقة بالتّوصل إلى أن نكون قدّيسين، والتّجاوب مع نداءات الله، والمثابرة حتّى النهاية. فإنّ الله الّذي بدأ فينا عمل خلاصنا سوف يكمله حتّى النّهاية[23]. لأنّه "إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟ إنّ الّذي لم يضنّ بابنه نفسه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء؟"[24]

في هذا العيد، كلّ شيء يدعونا إلى الفرح. إذ إنّ الرّجاء الأكيد لقداستنا الشّخصيّة هو عطيّة من الله. لكنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى سلبيًّا. تذكّروا كلمات المسيح هذه: "من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني"[25]. أترون؟ ألصّليب، يوميًّا. لا يوجد يوم دون الصّليب: ولا نـهار واحد دون حمل صليب الربّ، ونيره. فلهذا السّبب لم أشأ أن أهمل تذكيركم بأنّ فرح القيامة هو نتيجة ألم الصّليب.

إنّما لا تخافوا، لأنّ الرّبّ نفسه قال لنا: "تعالوا إليّ جميعًا أيّها التّعبون والثّقيلو الأحمال، وأنا أريحكم. إحملوا نيري وتعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأنّ نيري لطيف وحملي خفيف"[26]. "تعالوا – يعلّق القدّيس يوحنّا فم الذّهب – لا لتؤدّوا حسابًا بل لتتخلّصوا من خطاياكم؛ تعالوا، إذ إنّي لست بحاجة إلى مجدكم، هذا المجد الّذي تستطيعون أن تعطوني إيّاه: إنّي بحاجة إلى خلاصكم ... لا تجزعوا إذا ما تكلّمت عن حمل، لأنّه خفيف"[27].

إنّ درب تقديسنا الشّخصيّ تمرّ، يوميًّا، بالصّليب: إنّها ليست دربًا كئيبة، إذ هو المسيح نفسه من يساعدنا: ومعه لا مكان للحزن. لكنّي أحبّ أن أردّد بأنّ "لا يوجد يوم دون الصّليب في النفس الّتي تفيض حبورًا!".

أَلفَرَحُ المَسيحيُّ

لنعد مجدّدًا إلى الموضوع الّذي تعرضه علينا الكنيسة: إنتقال مريم إلى السّماء، بالنّفس والجسد. ألملائكة تـهلّل فرحًا! وإنّي أيضًا أفكّر بفرح القدّيس يوسف، زوجها الكلّيّ الطهارة، الّذي كان ينتظرها في النّعيم. لكن لنرجع إلى الأرض. فالإيمان يؤكّد لنا بأنّنا في الدّنيا، وفي هذه الحياة، نحن في حجّ، وسفر، وأن التّضحيات لن تنقصنا، ولا الألم ولا الحرمان. لكن ينبغي أن يرافق الفرح دوماً دربنا.

"أعبُدوا الرّبّ بالفرح"[28]، إذ ما من طريقة أخرى لخدمته. "الله يحبّ من أعطى متهلّلاً"[29]، من يعطي ذاته كلّيًّا، بتضحية منجزة بفرح، فلا مبرّر للحزن.

ولربّما تعتقدون، أنّ في هذا التّفاؤل مبالغة، فجميع البشر يَخْبُرون عدم كفاءتـهم وفشلهم؛ وجميعهـم يشعرون بالألم، والتّعب، ونكران الجميل، والحقد لربما. فإذا كنّا نحن المسيحيّين بشرًا كالاخرين، كيف نستطيع أن نفلت من هذه الملامح الثّابتة في الطبيعة البشريّة؟

إنّه لمن السّذاجة نكران الوجود الدّائم للألم، والإحباط، والحزن والوحدة، على هذه الأرض الّتي هي أرضنا. لكنّ الإيمان قد علّمنا بيقين أنّ كلّ هذا ليس وليد الصّدفة، وأنّ مصير الخليقة ليس في السّلوك نحو اضمحلال رغباتـها في السّعادة، وأنّ كلّ هذا له مقصد إلـهيّ، إذ إنّ كلّ شيء يعود إلى النّداء الّذي يقودنا نحو مسكن الآب. وهذه الطّريقة لفهم وجود المسيحيّ الأرضيّ بأسلوب فائق الطّبيعة لا تسهّل التّعقيد البشريّ؛ إنّما تؤمّن للإنسان إمكانيّة اختراق هذا التّعقيد بعصب حبّ الله، بـهذا السّلك المتين الّذي لا يتلف، والّذي يصل حياتنا الأرضيّة بحياتنا النّهائيّة في الوطن السماويّ.

وعيد انتقال السيّدة العذراء يحعلنا نلمس بالإصبع هذا الرّجاء البَهج. ونحن لا نزال في سفر، إلاّ أنّ أمّنا قد تقدّمتنا وهي تدلّنا على نـهاية الطّريق: فهي تكرّر لنا، أنّه بإمكاننا البلوغ، وإن كنّا مخلصين فسنبلغها. لأنّ العذراء الكلّيّة القداسة ليست فقط مثالاً لنا، إنّما هي معينة المسيحيّين. وأمام طلبتنا – "أظهري نفسكِ أمًّا"[30]، فهي لا تعرف، بل لا تستطيع أن ترفض لأبنائها عنايتها واهتمامها الأموميّ.

إنّ الفرح هو خير يمتلكه المسيحيّ، ولا يزول إلاّ أمام إهانة الله: لأنّ الإثم يأتي من الأنانيّة، والأنانيّة تولّد الحزن، ومع ذلك، يبقى هذا الفرح مطمورًا تحت جمرات النّفس، لأنّنا نعلم أنّ الله وأمّه لا ينسيان البشر أبدًا. فإذا ما تبنا، ثمّ صدر عن قلبنا فعل ألم، وقد تطهّرنا بسرّ التّوبة المقدّس، حينها يقترب الرّبّ لملاقاتنا ويسامحنا. إذ ذاك يزول الحزن: إنّه أوان الغبطة "لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاًّ فوُجد"[31].

بـهذه الكلمات تنتهي الخاتمة الرّائعة لمثل الابن الشّاطر، الّذي لا نملّ إطلاقًا أن نتأمّل فيه: "هوذا الآب يتقدّم لملاقاتك؛ ويحني رأسه على كتفك، ويقبّلك، عربون حبّ وحنان؛ ثمّ يلبسك ثوبًا مجدّدًا، وخاتمًا وحذاء. ولم تزل تخاف التّقريع والعقاب وكلام العتاب: فها هوذا يعيد لك منـزلتك ، ويقبّلك ويهيّىء لأجلك وليمة"[32].

إنّ حبّ الله لا يُسبر. فإذا كان يتصرّف هكذا تجاه من يهينه، فما الّذي لا يفعله ليكرّم والدته؟ العذراء الكلّيّة القداسة، الطّاهرة، والأمينة على الدّوام؟

إذا كان حبّ الله على هذا النّحو، فيما عمق القلب البشريّ هو دائم الخيانة، والحقارة، فكيف يكون تجاه قلب مريم، الّتي لم تظهر أيّ اعتراض على مشيئة الله ؟

أنظروا كيف تلحّ ليتورجيّة هذا العيد على عدم إمكانيّة فهم رأفة الرّبّ غير المحدودة بواسطة التّحليلات البشريّة؛ فبدل من أن تشرح، هي تغنّي؛ إنّها تستهدف المخيّلة كيما يضع كلّ أمرئ حرارته بكاملها في المديح. إذ لن نصل أبدًا إلى هذا الحدّ: "ثمّ ظهرت آية عظيمة من السّماء: إمرأة ملتحفة بالشّمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من إثني عشر كوكبًا"[33]. فقد شغف الملك بجمالك. فعلى مثالـها تتألّق ابنة الملك بثوبـها المطرّز بالذّهب![34]

وتُختتم اللّيتورجيّا على كلمات مريم، الّتي تجمع في الوقت نفسه إلى التّواضع العميق المجد الأكبر: "سوف تطوّبني بعد اليوم جميع الأجيال لأنّ القدير صنع بي العظائم"[35]. يا قلب مريم اللّطيف، أعطنا القوّة والأمان على مدى طريقنا في هذه الأرض: كوني أنتِ بذاتك طريقنا، لأنّك تعرفين الممرّ، والمختَصَر الّذي لا يخطئ، واللّذين يؤدّيان، عبر حبّك إلى حبّ يسوع المسيح.


1. تسبحة مساء عيد الإنتقال.

2. يو 19 : 27

3. لو 2 : 35

4. 1 يو 4 : 8، Deus caritas est

5. القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، , 14 (PG 96 , 742) “Homilia II in dormitionem B.V. Mariæ”

6. ر. دون سكوت، In III Sententiarum, dis. III, q . 1

7. لو 11 : 27 – 28

8. لو 1 : 38

9. ر. لو 1 : 48

10. لو 1 : 49

11. ر. 1 قور 1 : 27 – 29

12. متى 7 : 21

13. يو 1 : 14

14. لو 1 : 38

15. ر. روم 8 : 21

16. 1 صم 3 : 5

17. مز 42 : 2

18. لو 2 : 51

19. 1 طيم 2 : 4

20. مر 1 : 16 – 17

21. ر. لو 18 : 23

22. ر. مر 16 : 15

23. ر. فل 1 : 6

24. روم 8 : 31 – 32

25. لو 9 : 23

26. متى 11 : 28 – 30

27. القدّيس يوحنّا الذّهيّ الفم، “In Matthœum homiliœ” , 37 , 2 (PG 57 , 414)

28. مز 99 : 2

29. 2 قور 9 : 7

30. نشيد ليتورجيّ “Ave Maris Stella”

31. لو 15 : 32

32. القدّيس امبروسيوس، “Expositio Evangelii Secundum Lucam” , 7 (PL 15 , 1540)

33. رؤ 12 : 1

34. مز 44 : 12 – 14

35. لو 1 : 48 – 49