في معمل القديس يوسف

تعترف الكنيسة جمعاء بالقدّيس يوسف حارساً وشفيعاً لـها. وقد تُحُدِّثَ عنه على ممرّ الأجيال بإظهار الجوانب المتنوّعة لحياة أمانة مستمرّة في الرّسالة الّتي أمّنه الله عليها. فلـهذا السّبب، ومنذ سنوات عدّة ، يحلو لي أن أبتهل إليه بـهذا اللّقب العاطفيّ: أبانا وسيّدنا.

عظة ألقاها القديس خوسيماريا في 19 آذار 1963 بمناسبة عيد مار يوسف البتول.

تعترف الكنيسة جمعاء بالقدّيس يوسف حارساً وشفيعاً لـها. وقد تُحُدِّثَ عنه على ممرّ الأجيال بإظهار الجوانب المتنوّعة لحياة أمانة مستمرّة في الرّسالة الّتي أمّنه الله عليها. فلـهذا السّبب، ومنذ سنوات عدّة ، يحلو لي أن أبتهل إليه بـهذا اللّقب العاطفيّ: أبانا وسيّدنا.

صورة القديس يوسف في الإنجيل

إنّ القدّيسين متّى ولوقا يحدّثاننا عن القدّيس يوسف كما عن متحدّر من سلالة شريفة: سلالة داود وسليمان، ملكَي إسرائيل. فتفاصيل هذه القرابة، تاريخيّا، يشوبـها الغموض قليلاً. من السّلالتين المنقولتين بحسب الإنجيليّين، لا تبدو لنا واضحة لا السّلالة الّتي تخصّ مريم - أمّ يسوع بالجسد – ولا تلك الّتي تخصّ القدّيس يوسف، الّذي كان والده، حسب الشّريعة اليهوديّة. ولا نعلم أيضا إذا كانت بيت لحم هي مسقط رأس يوسف، الّتي قصدها للإحصاء، أو النّاصرة، حيث عاش وعمل.

غير أنّنا نعلم أنّه لم يكن غنيًّا: كان عاملاً، كما الملايين من رجال العالم كلّه. كان يمارس المهنة الوضيعة الّتي أرادها الله لنفسه، عندما أخذ جسدنا، واختار العيش طوال ثلاثين سنة كواحد منّا.

إن الكتاب المقدّس يخبرنا بأنّ يوسف كان حِرَفيًّا ،وكثير من آباء الكنيسة يضيفون بأنّه كان نجّارًا، والقدّيس يوستنيانس يؤكّد، في كلامه عن حياة يسوع العمليّة، بأنّه كان يصنّع عربات وأنيارًا! ربّما، معتمدًا على هذه الأقوال، يستنتج القدّيس إيزيدورس الإشبيليّ (Isidore de Seville) بأنّه كان حدّادًا.على كلّ حال، كان صناعيًّا، يعمل في خدمة مواطنيه، وكانت حذاقته ثمرة سنين من الجهود القاسية.

تتّضح شخصيّة يوسف الإنسانيّة القويّة من خلال النّصوص الإنجيليّة: فهو لا يبدو إطلاقاً إنسانًا ضعيفًا أو خائفًا أمام الحياة؛ إنّه بخلاف ذلك يعرف أن يواجه المشاكل، ويخرج من الأوضاع الصّعبة، ويتحمّل بمسؤوليّة ومبادرة المهامّ المنوطة به.

لست مع الأيقونة الكلاسيكيّة الّتي تمثّل القدّيس يوسف كعجوز، حتّى ولو شُرح ذلك بالنّيّة الممتازة لإبراز عذريّة مريم الدّائمة. أما أنا فأتخيّله شابًّا، قويًّا، ربّما يكبر العذراء ببضع سنوات، لكنّه في مقتبل العمر وزاخر بالقوى البشريّة.

شخصية رائعة

ليس من الضروريّ انتظار سنّ الشّيخوخة أو فقدان القوّة، لعيش فضيلة العفّة . فالعفّة تولد من الحبّ، والقوّة وفرح الفتوّة ليسا عائقَين للحبّ الطّاهر. كان القدّيس يوسف شابًّا، قلبًا وقالبًا، عندما اقترن بمريم، وعندما علم بسرّ أمومتها الإلـهيّة وعاش قربـها، محترمًا الكمال الّذي أراد الله أن يورثه العالم، كعلامة إضافيّة، لمجيئه بين الخلائق. فمن لا يستطيع فهم حبّ مماثل هو جاهل لماهيّة الحبّ الحقيقيّ، وهو يجهل المعنى المسيحيّ للطّهارة.

في العمل، كل يوم!

كان يوسف،كما سبق وقلنا، حِرَفيًّا من الجليل، رجلاً كغيره من الرّجال. وما الّذي يمكن أن ينتظره من الحياة قرويّ في قرية ضائعة، كالنّاصرة؟ لا شيء سوى العمل، يومًا بعد يوم، وبنفس الجهد دائمًا؛ وفي نـهاية النّهار، منـزل صغير حقير، ليجدّد فيه قواه ويعاود عمله في اليوم التّالي.

لكنّ يوسف في العبريّة يعني "الله يزيد". إنّ الله يزيد على حياة الّّذين يتمّمون إرادته المقدّسة، أبعادًا غير منتظرة: فالـمهمّ، هو الّذي يعطي قيمة لكلّ شيء، البعد الإلـهي. سوف يزيد الرّبّ، على حياة يوسف المتواضعة والمقدّسة، إذا استطعت القول، حياة العذراء مريم وحياة يسوع ربّنا. فإنّ الله لا حدود لكرمه. وباستطاعة يوسف أن يكرّر كلمات القدّيسة مريم، زوجته: "إنّ القدير صنع إليّ أمورًا عظيمة، لأنّه نظر إلى صغري".

الله يتكل عليه، وهو رجل عادي

إنّ يوسف كان في الحقيقة رجلاً عاديًّا، قد وثق الله به، لتتميم أمور عظيمة. فعرف أن يحيا كما أمره الرّبّ في كلّ الأحداث الّتي كوّنت حياته، ولذلك يمتدح الكتاب المقدّس يوسف بقوله إنّه كان بارّاً. وكلمة "بارّ" بالنّسبة لعبريّ تعني تقيًّا، خادمًا لله لا غبار عليه، أمينا للإرادة الإلـهيّة؛ أمّا في الماضي، فكانت تعني الصّالح والّذي يحبّ القريب. بكلمة، ألبار ّ هو من يحبّ الله، ويبرهن هذا الحبّ بإتمام وصاياه في خدمة إخوته البشر.