ملف صوتي للأب الحبري: إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين

سنتوقّف اليوم عند عملين للرحمة مادّييْن: إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين.

ملفات صوتية أخرى للأب الحبري بمناسبة يوبيل الرحمة:

1. المقدمة: أعمال الرحمة (1. 12. 2015)

2. زيارة المرضى والإعتناء بهم (1. 1. 2016)

*****

نتوقّف اليوم عند عمليْن رحمة مادّييْن هما إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين. فالله، أب الرحمة، قد أعطى الطعام لشعبه طوال قرونٍ، ولا يزال يعطيناه يوميًا، واضعًا على موائدنا المأكولات التي نتناولها. لذلك، فإنّه لمن المناسب أن تنتشر في قلب العائلات عادة الصلاة قبل الأكل وشُكر الله على حسناته عند الإنتهاء. فلا نَمْتَنِعَنَّ عن إظهار هذه العادة، حتّى ولو كنّا خارج المنزل، لأنّها تشكّل تعبيرًا عميقًا عن إيماننا، وقد تكون عملاً رسوليًّا فعّالاً أمام الذين يروننا.

في هذا اليوبيل الإستثنائي للرحمة، يجدر بنعمة الطعام اليومية أن تُنعش فينا، لا أفعال الشكر فحسب، بل قلقنا تجاه إخوتنا الذين يعانون من نقصٍ في قوتهم اليومي. فلنفكّر بملايين الأشخاص حول العالم الذين لا يجدون شيئًا، أو تقريبًا لا شيء ليأكلوه، في حين أنّ الطعام في أماكن أخرى يرمى لأسبابٍ متعدّدةٍ مثل تقليص مخزون الأطعمة أو نتيجة الإهمال أو بهدف الإبقاء على أسعار المنتجات مرتفعة.

وفي هذا السياق يقول البابا: "إنّ المأكولات التي تُرمى في المهملات، تُسرق من موائد الفقراء". ولذلك، فقد دعا، في مناسباتٍ عدّةٍ، إلى تحسين توزيع المنتجات في العالم وإلى محاربة "ثقافة التجاهل" بهذه الطريقة ومن خلال مبادراتٍ أخرى.

فلننظرْ إلى المسيح متأمّلين بإعجابٍ معجزة تكثير الخبز والسمك، مُشبِعًا ألاف الجائعين. فالرسل، قبل ذلك بقليلٍ، كانوا قد اقترحوا على يسوع أن يصرف الناس "ليذهَبوا إلى المزارعِ والقُرى المجاورة، فيشتروا لهُم ما يأكلون، فالمكانُ قَفْرٌ وقد فاتَ الوقت". واللافت للانتباه هو أنّ الرسل، وبعد سماعهم كلمة الله، طلبوا أن تبحث كلّ عائلةٍ عمّا تؤمن به حاجاتها بمفردها. إلّا أنّ الربّ أظهر فعلاً أنّ إطعام الجائعين هو أمر يعنينا جميعنا، فأجابهم قائلاً: "أعْطوهُم أنتُمْ ما يأكلون". وقام بعد ذلك بالمعجزة التي فاجأت الجميع.

لقد تعلّم الإثنا عشر الدرس جيدًا؛ إذ إنّهم، وبعد فترةٍ من الزمن، في سنوات الكنيسة الأولى، بدؤوا يحثّون على توزيع الطعام على المؤمنين الأكثر فقرًا. ولا تزال طريقة التصرّف هذه ظاهرة في الكنيسة حتّى يومنا هذا، حيث مبادرات المحبّة المتعدّدة قد نشأت عن أيدي مسيحيين كثيرين. فبرزت بنوك الطعام والمطاعم العامّة ومدارس فندقيّة خاصة لتدريب الأشخاص غير المتعلمين، بالإضافة إلى مبادراتٍ خدماتيةٍ كثيرةٍ أخرى، في البلدان الأقل تطورًّا وفي ضواحي البلدان المتطوّرة. فلا نكتفيَنَّ بإبراز إعجابنا بهذه المبادرات؛ بل على الأقل، لنصلّي لكيما تكون فعّالة، مقدّمين المساعدة إذا ما تسمح ظروفنا بذلك.

فلنحملْ إذًا رحمة الله إلى الجميع، وخصوصًا إلى المشرّدين، ممتلئين بالفرح والكرم. ولن تنقصنا فرص المساعدة المتزايدة والمتنوّعة إذا ما أردنا ممارسة أعمال المحبّة: فنستطيع، على سبيل المثال، تكريس وقتنا بشكلٍ دوريٍّ لمساعدة منظّماتٍ تضامنيّةٍ، أو اتخاذ هذا المجال عملاً مهنيًّا، أو تقدمة المساعدة المادية لأحد هذه المبادرات، أو العمل من أجل تغيير بعض القوانين التي تمنع التجارة العادلة للمنتجات الغذائية، أو تجنّب هدر المأكولات في المنزل، وإلخ...

يجب أن تتردّد في نفوسنا كلمات المسيح هذه: "كنتُ جائعًا فأطعمتموني، كنتُ عطشانًا فسقيتموني"؛ ولنسألْ أنفسنا: ماذا يمكنني أن أعمل أنا؟ وكيف أشجّع الآخرين؟

لم يكتفِ يسوع، معطي الحياة، بتوزيع الخبز والسمك على جبلٍ في الجليل، بل نراه يوزّع الخبز الذي تحوّل إلى جسده والخمر الذي تحوّل إلى دمه في العشاء الأخير، عندما حانت اللحظة الجليلة. فإذا واجهنا بعض الأعذار لعدم المثابرة في أعمال الرحمة، أو إذا ما دفعتنا الأنانية إلى غضّ النظر عن مَن يعانون من النقص في حاجاتهم الأساسية، أو إذا بذّرنا أموالاً في مصاريفنا أو فكّرنا أنّ الجوع هو موضوعٌ معقّدٌ يَصعُبُ حلّه، لنَشْخُصَنَّ عندئذٍ أنظارنا على المسيح-في الإفخارستيّا: فهو قمّة العدل، قد قدّم ذاته مأكلاً واهبًا نفسه بكلّيته، وأتى إلى العالم لكي تصبح حياته مصدر تغذيةٍ لحياتنا؛ وكرمه يعطينا القوة، وموته يعيد لنا الحياة.

يقدّم لنا المسيح، وهو وجه رحمة الآب، جسده ودمه تغذيةً لنا بشكل الخبز والخمر، ويجذبنا بذلك إلى المشاركة في الحياة الأبدية. فلنتشبّه به: لا يمكننا حتمًا الوصول إلى هذه الدرجة من إعطاء الذات، ولكن بإمكاننا تقدمة المأكل والمشرب لأعضاء جسد المسيح السرّي، ومساعدتهم على الاقتراب من الإفخارستيا، كما بإمكاننا أيضًا تقدمة مساعداتٍ ماديةٍ أخرى.

لقد رسّخ القديس خوسيماريا، منذ بدايات الـ"أوبس داي"، في قلب الذين كانوا يقصدونه لتلقّي التنشئة، الرغبة المسيحية في الخروج للقاء المشرّدين والأشخاص الذين تنقصهم الوسائل الماديّة. وكان يتوجّه بودٍّ إلى المحتاجين وإلى الأشخاص الذين يحاولون إخفاء فقرهم بكرامة. كان يدعوهم "فقراء العذراء"، ويزورهم يوم السبت عمومًا، إكرامًا لسيّدتنا. وقد مارس عمل الرحمة هذا من دون إذلال أحد. وبالإضافة إلى ذلك، سهّل الطريق أمام الفتيان الذين كان يقترح عليهم مرافقته، ليعطوا القليل ممّا لديهم، من المال أو أشياء مسلّية للقراءة أو ألعابًا للأطفال أو بعض الحلويات التي يمكن فقط للأغنياء الحصول عليها... وفوق كلّ شيء، كان يحملهم بالعاطفة ويتحدّث معهم ويهتمّ فعلاً لحاجاتهم ومشاكلهم؛ وهكذا كانوا يدركون جميعهم أنّهم يعملون ويهتمون بإخوتهم فرحين.

هذه الأمور وغيرها مشابهة يجب أن تتكرّر يوميًا في حياتنا كلنّا. ويمكننا أن نطلب من القديس خوسيماريا أن يساعدنا على تحديدها وعلى اتباع مثال الخدمة والمحبة والمودّة الفعلية، الذي أعطانا إيّاه.