ملفّ صوتي للأب الحبري: دفن الموتى

يتأمّل الأب الحبري للـ"أوبس داي"، المطران خافيير إيتشيفاريّا، في الملف الصوتي لشهر أيّار، بآخر أعمال الرحمة الجسدية، هو دفن الموتى. ويدعو إلى تسهيل الدرب أمام سرّ مشحة المرضى عندما تدعو الحاجة.

ملفّات صوتية أخرى للأب الحبري بمناسبة يوبيل الرحمة:

1) المقدمة: أعمال الرحمة (١/١٢/٢٠١٥)

2) زيارة المرضى والإعتناء بهم (١/١/٢٠١٦)

3) إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين (١/٢/٢٠١٦)

4) إكساء العريان وزيارة السجناء (1/3/2016)

5) إيواء الغرباء (15/4/2016)

*****

إنّ "دفن الموتى" هو آخر أعمال الرحمة الجسدية. فلننظرْ من جديد إلى المسيح الذي يتحدّث إلينا من خلال الانجيل. ففي خلال آلامه، نلاحظ كيف رفض الناس، لقساوة قلوبهم، أن يقدّموا ولا حتّى لفتة صغيرة من الرحمة للربّ الذي نراه أسيرًا، عطشانًا، مريضًا، عريانًا ومتروكًا من شعبه.

ولكنّنا سرعان ما نكتشف لفتةً رحيمةً تنبع من الرحمة التي زرعها الله في قلوب البشر: لفتةٌ حنونةٌ طالت جسد المسيح المائت على الصليب. فالأيادي التقيّة أنزلت المصلوب عن صليبه، وأضجعته في حضن أمّه، ولفّته في كفنٍ نظيفٍ ودفنته في قبرٍ جديدٍ.

تأمّلتُ مرارًا بهذا المقطع وفهمتُ جيدًا كيف أنّ الذراعين الوحيدين اللذين استحقّا اقتبال جسد المسيح، كانا ذراعي أمّه، هذه المرأة التي عاشت حياةً نقيّةً طاهرةً بكرمٍ كبيرٍ تجاه ابنها وتجاه المسكونة كلّها.

ففي تأمّلنا بهذا المشهد، يضيء في قلوبنا بصيصًا من الأمل عندما نعي أنّنا، نحن البشر الذين ما قبلنا المخلّص وقت ولادته وأسأنا معاملته خلال مروره على هذه الأرض، تمكنّا أخيرًا من تقدمة دفنٍ شريفٍ له على الأقلّ.

يروي القديس خوسيماريا هذا الحدث على هذا النحو: "استفاد كلّ من نيقوديموس ويوسف الرّامي، وقد كانا تلميذي المسيح بالسرّ، من مركزيهما العاليين ليتوسّطا له. ففي ساعة الوحدة والتّخلّي التّام والإهانة، ظهرا جريئين، بشجاعةٍ بطوليّةٍ!" (راجع مر 15، 43).

ويتابع مؤسّس الـ"أوبس داي" صلاته بهذه الكلمات: "أمّا أنا، فسأصعد معهما حتّى أقدام الصّليب، وسأضمّ ذاك الجسم البارد، وأعانق جثمان المسيح بنار حبّي... سأنزع مساميره بأعمالي التعويضيّة وبإماتاتي... سألفّه في الكتّان الجديد لحياتي الشّفّافة، ثمّ أدفنه في عمق صدري، في صخرة قلبي الحيّة فلا يستطيع أحدٌ انتزاعه منّي. وهناك، يا ربّ، سوف تستريح! حتّى لو تركك العالم بأسره واحتقرك... سوف أخدمك أنا، يا سيّد".

هكذا كان القديس خوسيماريا يعيش المشاهد الإنجيلية، واضعًا نفسه في قلب الأحداث كشخصيّةٍ أخرى من شخصيّات الإنجيل.

ولد المسيح لكي يموت ويحقّق بذلك الخلاص لنا. فلا بدّ من أن يؤثّر هذا المشهد في نفوسنا؛ فالموت يشكّل جزءًا من حياتنا ويساعدنا على إعطاء معنىً للوقت الذي نعيشه في هذه الدنيا.

ونقرأ في الرسالة العامة "خُلّصنا في الرجاء" (SPE SALVI) أنّ يسوع المسيح وحده "يرشد إلى الطريق الذي ما بعد الموت؛ وحده الذي يمكنه القيام بذلك يكون معلّم حياةٍ عن حقٍّ (...).الراعي الحقيقي هو أيضًا الذي يعرف الطريق الذي يجتاز وديان الموت".

يا بناتي وأبنائي، أصدقائي وصديقاتي! إنّه لمن الضروري أن نعرف كيف نموت، تمامًا مثلما علينا أن نعرف كيف نعيش. ويمكننا في كلتا الحالتين أن نطلب المساعدة. فعلى المسيحي أن يواجه هذه اللحظة برجاءٍ وهدوءٍ، إن ارتبطت به أو بالآخرين،. وقد نرى أنّه غير ملائم التحدث عن الموت أمام شخصٍ مريضٍ وضعيف الصحة. ولكن، لا يجب أن نتوقّف عن تقديم كلماتٍ مشجّعةٍ ومساعدةٍ قد تلمس النفس بتعزيةٍ ومحبّةٍ.

ولا يجب أن تشكّل مشحة المرضى مصدر قلقٍ وألمٍ. فنعمة الربّ تقوّي النفس التي، بمنظار العقل البشري، تواجه المجهول بقلقٍ. لندعِ الربّ يتصرّف فينا. فإنّنا نحن الكهنة، نلمس مرارًا كيف تخفّف رحمة الربّ الحمل عن المحتضرين، عندما يعطون سرّ مشحة المرضى. فلنعملْ، في تلك اللحظات، على أن نصلي جميعنا مع المرضى، ونحدّثهم عن السماء بشكلٍ طبيعيٍّ، ونشدّدهم في الإيمان، ونذكّرنهم بأنّهم لن يبقوا بمفردهم، بل سيكون حبّ الله اللامتناهي بانتظارهم في الحياة الأبدية.

في عام 1932، رافق القديس خوسيماريا رجلًا وهو على فراش الموت في المستشفى العام في مدريد. وما لبث أن راح يتذكّر ذاك المريض، عندما آن أوانه، كلّ الأخطاء التي قام بها في حياته؛ كلّ تلك الإهانات التي أهان بها الله باتت تقلق روحه. وقد أخبر مؤسّس "عمل الله" عمّا جرى بعد سنواتٍ عدّةٍ من الحادثة: "بدأ يقول لي صارخًا، من دون أن أفلح في إسكاته: بفمي الفاسد هذا لا يمكنني أن أقبّل الربّ. فأجبته: لا تقلق، فإنّك ستغمره وتعطيه قبلةً كبيرةً في السماء!". مات ذاك الرجل بسلامٍ، مستندًا على إيمان ذلك الكاهن القديس الذي عرف كيف يبقى إلى جانبه في لحظة التجربة الأخيرة.

تشكّل عمليّة دفن الموتى مهمّة تحمل إمكانيّات عدّة لتشديد إيمان الأحياء. فإنّ الذي يختبر موت شخصٍ قريبٍ، سيشكر مرافقتنا له بصلواتنا وبهدوئنا؛ وإذا ما توجّب علينا أن نقول بعض كلمات التعزية، فلنعطِها دائمًا معنىً فائق الطبيعة، لكي يكون إيماننا عزاءً لمَن يحتاج إليه. فقد لا تجد في حياة كثيرين صديقةً أو صديقًا يذكّرهم بأنّ الله هو أبٌ وبأنّه يهتمّ بالذين رحلوا عنّا أيضًا.

لذلك، إنّه لمن خصائص المسيحيين الاهتمام مادّيًا بالأماكن حيث يستريح الموتى، متنبّهين إلى نظافة المدافن وواضعين بعض الورود عليها. فالأمر لا يقتصر على إحياء ذكراهم أو على الصلاة من أجل نفوسهم، إنّما يجب، من خلال اهتمامهم بالأموات، أن يظهروا أيضًا الاحترام للأجساد، لأنّنا نؤمن إيمانًا ثابتًا بقيامة وبالتالي، فإنّ الأماكن التي ترتاح فيها جثامين الناس الذين نعرفهم، تذكّرنا بحقيقة أنّهم سيعودون إلى الحياة.

عندما نصلّي أمام مدفن، ندرك جيدًا أنّ الحبّ لا ينطفئ، إنّما يبقى حيًّا. فالإيمان يعطينا الثقة بأنّ رحمة الله قادرة على تخطي حاجز الموت بطريقةٍ عجيبةٍ. ما أعظم الرحمة التي يمكننا من خلالها، بفضل قيامة يسوع المسيح، أن نطيل محبّتنا إلى ما هو أبعد من حدود هذه الحياة!

لنفكّرْ بمريم، أمّ المصلوب. ففي أحضانها ارتاح المسيح عندما أُنزل من على الصليب. وهي استمرّت في الاهتمام به، على الرغم من قلبها المذبوح. ويقول البابا فرنسيس: " ما مِن أحد كمريم قد عرف عمْق سرّ الله الذي صار إنسانًا. إنّ كلّ شيءٍ في حياتها قد طُبع بحضور الرحمة التي صارت بشرًا. إنّ أمّ المصلوب القائم من الموت قد دخلت معبد الرحمة الإلهية، لأنّها شاركت بعمقٍ في سرّ محبّته". فلنتمثّلْ بعذراء الآلام، كما يدعونا الأب الأقدس، في خدمتنا اليومية للأحياء والأموات.