ملفّ صوتي للأب الحبري: "تحمُّل سيّئات القريب بصبرٍ"

وحدها الروح الصبورة والمتواضعة والمدركة لنواقصها تجد نفسها قادرة على الانفتاح على الذين يحتاجون بشكلٍ طارئ إلى يدٍ يتمسّكون بها أو إلى نصيحة دقيقة أو ابتسامة تعكس تفهّمًا حقيقيًّا، بحسب ما يؤكد الأب الحبري في الملف الصوتي لشهر تشرين الأول.

ملفّات صوتية أخرى للأب الحبري بمناسبة يوبيل الرحمة:

1) المقدمة: أعمال الرحمة (١/١٢/٢٠١٥)

2) زيارة المرضى والإعتناء بهم (١/١/٢٠١٦)

3) إطعام الجائعين وسدّ عطش الظمآنين (١/٢/٢٠١٦)

4) إكساء العريان وزيارة السجناء (1/3/2016)

5) إيواء الغرباء (15/4/2016)

6) دفن الموتى (15/5/2016)

7) تعليم من لا يعرف وتقدمة النصيحة للمحتاج إليها (11/06/2016)

8) تصحيح من يخطئ (1/07/2016)

9) تعزية من يخطئ إلينا (1/08/2016)

10) تعزية الحزانى (5/09/2016))

*****

ملاحظة: يمكن الإستماع للملف الصوتي باللغة الإسبانية فقط، وفي ما يلي تعريب مضمون الملف:

إنّنا نسعى، في خلال هذه السنة، إلى أن تؤثّر الرحمة الإلهية في حياتنا الداخلية تاركةً بصمتها في أعمالنا. فعلينا أن نعمل على إظهار محبّة الله وصلاحه في ظروف الحياة العادية، كما لطالما أكّد لنا القديس خوسيماريا؛ فإمّا نجد الله فيها وإمّا لا نجده أبدًا.

وعلى هذا النحو، نحوّل التعايش مع الآخرين ومكان عملنا أو بيتنا إلى مناسبات للتشبّه بالمسيح ولرفع العالم نحو الله بواسطة المحبّة. لذلك، إنّه لمن المناسب أن نقوم بفحص ضمير حول كيفية عيشنا عمل الرحمة الذي سنتأمّل به في خلال هذا الشهر: تحمُّل سيّئات القريب بصبرٍ ومحبّتها.

غالبًا ما يبدو صعبًا الفصل بين هذين الواقعين: الحبّ والألم. فمَن لم يتألّم حبًّا بزوجته أو زوجه، أو محبّة بابنه أو صديقه؟ وقد يبدو الجمع بينهما أحيانًا كنوعٍ من السرّ، إلّا أنّ يسوع، من على الصليب، أظهر لنا أنّ هذا هو الطريق الذي اتّبعه الله بذاته. ونحن إذ ندرك أنّ الربّ عالمٌ بأحوالنا، لا نتزعزعَنَّ متى نواجه هذا السرّ في حياتنا اليومية، بل لننظُرَنَّ إلى الصليب الذي هو مصدر سلامٍ لنا.

كثيرًا ما نصحنا مؤسّس "عمل الله" بأن نحمل معنا دائمًا صليبًا صغيرًا في جيبنا أو بأن نضعه على مكتبنا أو حيث نعمل بالقرب من صور الأشخاص الذين نحبّهم. فيسهل علينا أن نتقبّل معاكسات النهار وأن نواجه الهزائم من دون فقدان الحماسة وأن نتخطّى الخلافات الحتمية مع الآخرين بسهولة أكبر، كلّما التفتنا إلى الصليب وقبّلناه أو توجّهنا إلى المصلوب ببعض العبارات البسيطة. ويضيف القديس خوسيماريا مؤكّدًا أنّه ليس علينا أن "نتحمّل" القريب، بل أن نحبّه لكي نسير جنبًا إلى جنب معه في الطريق اليومي.

فعندما نفقد الخوف من الصليب ونحبّه من دون خشية متى يظهر في ظروف حياتنا العادية بطريقة غير معتادة، يكبر قلبنا ونتمكن من الاعتناء بالمحتاجين. وهكذا، نتهيّأ للوقوف أمام الله الذي يفهمنا والذي ينتظرنا في السماء، ليفيض بحبّه اللامتناهي على أرواحنا المسكينة.

ويصف القديس بولس خصائص الحبّ الطاهر بالكلمات التالية: "اَلْمَحَبَّةُ تَصْبُرُ، اَلْمَحَبَّةُ تَخْدُمُ، وَلا تَحْسُدُ وَلا تَتَباهى وَلا تَنْتَفِخُ مِنَ الْكِبْرِياءِ، وَلا تَفْعَلُ ما لَيْسَ بِشَريفٍ وَلا تَسْعى إِلى مَنْفَعَتِها، وَلا تَحْنُقُ وَلا تُبالي بِالسّوءِ، وَلا تَفْرَحُ بِالظُّلْمِ، بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ...".

يا أصدقائي وصديقاتي، إذا أردنا خير الآخرين حقًّا، سنفهم أنّ أمام الأخ الضعيف ما من مكانٍ للعجلة أو للانتقاد أو لنفاذ الصبر. حتّى ولو أنّنا ندّعي "قولبة" القريب وفق ذوقنا الخاص، ويثور أحيانًا غضبنا بسرعة أمام سيّئاته وأخطائه المتكرّرة، لنفكّر لبرهة: أما صَبَرَ الله علينا ولا يزال يصبر أكثر؟

في خلال التجلّي، عندما كان الربّ يبتهج مع الآب والروح القدس، حاول عبثًا التلاميذ التسعة المتواجدون على سفح الجبل شفاء شابًّ فيه روحٌ نجسٌ. فقلّة إيمانهم وقفت عائقًا أمام مساعدتهم للشاب الذي راح يرتمي في الماء وفي النار مؤذيًا نفسه. وقد خاب أمل يسوع بتلاميذه بعدما بلغه فشل محاولاتهم، وقد نجد ذواتنا أيضًا خائبي الأمل من القريب بسبب سيّئاته، مبتعدين عنه. فأجاب المخلّص: "حَتّامَ أَبْقى مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟".

ولكن، بما أنّ يسوع أتى إلى العالم ليخلّص البشر، قام بكلّ شيءٍ بصبرٍ كبيرٍ، فشفى الشاب ثمّ شرح للتلاميذ سبب فشلهم، قائلًا: "إِنْ كانَ لَكُمْ مِنَ الْإيمانِ (...) ما أَعْجَزَكُمْ شَيْءٌ". فحُبّ الربّ العميق للبشر، ولي ولك، هو القوّة التي تدفعه إلى تخليصنا ومنحنا غفرانه مرارًا وتكرارًا والنظر إلى كرامة أبناء الله فينا التي قد ربحها هو لنا-والتي تستتر تحت وشاح بؤسنا.

فلنتّبعَنَّ خطى المسيح ولا نبتعدَنَّ عن القريب بسبب سيّئاته، متفهّمين أنّ الأمر يتخطّى "تحمّل سيّئاته" إلى الترحيب به من دون أن نحسب أنفسنا ضحيّة. فلننظرْ إلى الآخرين، لا بعيوننا نحن بل بالعيون الحنونة التي ينظر بها الله إليهم وإلينا. وإذا ما صدر عنّا انتقادٌ داخليٌّ عفويٌّ أو إذا ما ظننا أنّنا غير قادرين على تحمّل طبع هذا الشخص أو ذاك لوقتٍ أكثر، فلنحسّنْ حينها فحص الضمير الشخصي. فمَن لا يعرف نفسه جيدًا ومَن لا يبحث عن التواضع، يميل إلى التصلّب والقساوة مع الآخرين. وكتب القديس أغسطينوس في هذا الصدد: "إنّ الخاطئ المتواضع أفضل من "قدّيس" متكبّر".

أذكر كيف كان القديس خوسيماريا يختلي بذاته بضع دقائق أمام بيت القربان المقدّس في ختام النهار قبل أن يذهب إلى النوم لكي يزين مجريات نهاره. فتلك الدقائق أمام الربّ ساعدته ليتذكّر الأوقات التي كان قادرًا على أن يعطي نفسه أكثر للآخرين ولم يفعل، طالبًا المغفرة من الله ومجهّزًا نفسه لمواجهة اليوم التالي بشكلٍ أفضل. فوحده الشخص الذي يعرف أنّه ضعيف والذي يضحك قليلاً على فقره، يكتشف كم أنّه بحاجة إلى الله وإلى تفهّم إخوته.

وحدها الروح الصبورة والمتواضعة والمدركة لنواقصها تجد نفسها قادرة على الانفتاح على الذين يحتاجون بشكلٍ طارئ إلى يدٍ يتمسّكون بها أو إلى نصيحة دقيقة أو ابتسامة تعكس تفهّمًا حقيقيًّا. في حين أنّ المواجهة والعبارات الثقيلة والسخرية واليأس لا تحقّق سوى القليل.

وشدّد القديس خوسيماريا على الأزواج قائلًا: "اسعوا إلى المحافظة على شبابٍ دائمٍ، وإلى الحفاظ على بعضكم لبعض بشكلٍ كاملٍ، وإلى الوصول إلى أن تحبّوا بعضكم لدرجة محبّة سيّئات الآخر، إلّا إذا شكّلت إهانة لله". وهذه المحبّة لسيّئات الشريك أو الصديق لا تصير ممكنة إلّا إذا ما نضج الحبّ واكتمل. ولا تعني المحبّة تقبّل سيّئات الآخرين كحِملٍ، إذ نريد الخير لهم. ومن هنا سعينا إلى مساعدتهم على إستئصال أخطائهم من جذورها كالطبع الغاضب أو الفاتر أو سوء التنظيم أو الشهوانية أو الكسل أو النشاط المبالغ به أو عدم الالتزام بالوقت أو هدر الأموال وإلخ...

تشكّل هذه السيّئات صلبانًا يحملها كلّ واحدٍ منّا طوال سنواتٍ أو بشكلٍ دائمٍ، فلا نضيفَنَّ المزيد من الثقل عليها. فالصبر تجاه القريب يشكّل بالنسبة لكثيرين معونة سمعان القيرواني فتخفّف حمل الصراعات اليومية وتساعدنا على التشبّه بالمسيح السائر على درب الجلجلة حاملًا صليبه من أجلنا.

فلنطلبْ من العذراء أن تعلّمنا كيف نكون صبورين. فهي قد استقبلت الرسل الذين تخلّوا عن ابنها ورافقت كأمٍّ الكنيسة التي كانت تسير خطواتها الأولى. ولنكنْ على ثقةٍ بأنّ مريم تمشي معنا وتساعدنا على ملء علاقاتنا مع البشر بالتفهّم الرحوم.