​مَوْتُ المَسيحِ، حَيَاةُ المَسيحِيِّ

في ما يلي، عظة ألقاها القديس خوسيماريا في 15 نيسان 1960، المصادف يوم الجمعة العظيمة، وهي من ضمن العظات المحفوظة في كتاب "عندما يمرّ المسيح".

هذا الأسبوع، المدعوّ مقدّسًا، تقليديًّا، من قِبَلِ الشّعب المسيحيّ، يتيح لنا مرّة أخرى المناسبة لنتأمّل ونعيش اللّحظات الّتي تُهرَق فيها حياة يسوع. كلّ ما تعيده إلى ذاكرتنا مظاهر التّقوى المختلفة، طوال هذه الأيّام، هو حتمًا موجّه نحو القيامة، الّتي هي كما كتب القدّيس بولس[1]، أساس إيماننا. ولكن لا نعبرنّ بسرعة هذه الدّرب، ولا نجعلنّ طيّ النسيان أبدًا شيئًا، على بساطته، قد يفوتنا أحيانًا . لن نستطيع أبدًا المشاركة في قيامة السّيّد، ما لم نتّحد بآلامه وموته[2]. وإذا أردنا أن نرافق المسيح في مجده، في نـهاية الأسبوع المقدّس، وجب علينا أن ندخل أوّلا في تضحيته الكبرى، وأن نتّحد به، مائتا على الجلجلة.

إنّ عطاء المسيح السّخيّ يواجه الخطيئة، هذه الحقيقة الأكيدة الّتي يصعب قبولـها: "سرّ الجَوْرِ"، أي شرّ الخليقة غير المبرّر، وهي تنتصب بتكبّر ضدّ الله. فالقصّة قديمة قدم البشريّة. لنتذكّر سقطة أبوينا الأوّلين؛ وفيما بعد، كلّ هذه السّلسلة من الفساد المرافِقَةِ لمسيرة البشر، وأخيرًا، معاصينا الشّخصيّة. إذ ليس سهلاً قياس الفساد الّذي تفترضه الخطيئة، وفهم كلّ ما يقوله لنا الإيمان. لذا علينا أن نعي، حتّى على الصّعيد البشريّ، أنّ كِبَرَ الأساءة هو نسبيّ لمنـزلة المُساء إليه، لقيمته الشّخصيّة، لكرامته الإجتماعيّة، لصفاته. والحال ها هي الخليقة تنكر خالقها، والإنسان يهين الله.

لكنّ "الله محبّة"[3]. فهوّة الخبث الّتي تحويها الخطيئة تمّ تجاوزها بمحبّة لا متناهية. والله لا يترك البشر. إنّ التّصاميم الإلـهيّة تستدرك أنّه، للتّعويض عن أخطائنا، ولإعادة الوحدة المفقودة، لم تعد أضاحي الشّريعة القديمة تكفي: وأصبح ضرورياً أن يضحّي إنسان يكون الله بنفسه. ولكي نقترب بطريقة ما من هذا السّرّ الّذي لا يُسبر، نستطيع أن نتصوّر أنّ الثّالوث الأقدس عقد اجتماعًا تشاورياً، في علاقة الحبّ الخاصّة به المتواصلة والحميمة، وكانت نتيجة هذا القرار الأزليّ ، أن يتحمّل إبن الله الآب الوحيد، مسؤوليّة الجنس البشريّ، آخذاً على عاتقه تعاستنا وآلامنا، ومنتهياً على خشبة مسمّرًا.

هذه الحماسة، وهذا الشّوق بتنفيذ قرار الله الآب الخلاصيّ، يملأ حياة المسيح كلّها، منذ ولادته في بيت لحم. وعلى مدى السّنوات الثّلاث الّتي عاشها معه التّلاميذ، سمعوه يردّد غير مرّة أنّ غذاءه هو أن يعمل مشيئة من أرسله[4]، إلى أن تمّت تضحيته وسط النّـهار في أوّل يوم جمعة مقدّس. "أحنى رأسه وأسلم الرّوح"[5]. بـهذه الكلمات يصف القدّيس يوحنّا الرّسول موت المسيح: يسوع، تحت ثقل الصّليب وأخطاء البشر كلّها، مات من جراء قوّة ودناءة خطايانا.

لنتأمّل في الرّبّ المجروح من الرّأس حتّى أخمص القدمين، حبًّا بنا. بعبارة تفيد عن الواقع، أقلّه جزئيًّا، نستطيع أن نكرّر، مع كاتب قديم من أجيال عدّة: إنّ جسد يسوع هو رافدة مذبح أوجاع. عند رؤية المسيح شبيها بخرقة، جثّة هامدة منـزلاً عن الصّليب ومستودعاً بين يدي أمّه، عند رؤية يسوع محطّماً، قد نستنتج أنّ هذا المشهد هو البرهان الأوضح للانـهزام. أين هي الجموع الّتي كانت تتبعه، والملكوت الّذي كان ينادي بمجيئه؟ لكنّ الأمر ليس انـهزامًا بل انتصارًا: هي الآن اللّحظة الأقرب للقيامة على الإطلاق، لحظة إعلان المجد الّذي اكتسبه بطاعته.


مَوْتُ المَسيحِ يَدْعُونَا لِمِلءِ الحَيَاةِ المَسيحِيَّةِ

ها قد عشنا مجدّدًا مأساة الجلجلة، وهو ما أسمح لنفسي بتسميته القدّاس الأوّل والتأسيسيّ، الّّذي احتفل به يسوع المسيح. ألله الآب يُسلِم ابنه إلى الموت. يسوع الإبن الوحيد، يعانق الخشبة حيث ينبغي أن يُعَذَّبَ، وتُقبَلُ تضحيته ثمرة الصّليب من قِبَلِ الآب، فيفيض الرّوح القدس ويغمر البشريّة[6].

في مأساة الآلام تُهرَق حياتنا الخاصّة، وتاريخ البشريّة بأسرها. لا يمكن أن يُختصر الأسبوع المقدّس بذكرى بسيطة، لأنّه تأمّل في سرّ يسوع المسيح، الممتدّ إلى نفوسنا؛ فالمسيحيّ ملزم بأن يكون مسيحًا آخر، بل المسيح نفسه. فبالعماد، قد رُسِمنا كلّنا كهنة في عمق كياننا، "كيما تقرّبوا ذبائح روحيّة يقبلها الله عن يد يسوع المسيح"[7]، وكيما نحقّق كلّ أعمالنا بروح الطّاعة لإرادة الله، مخلّدين هكذا رسالة الله الصّائر إنساناً.

بخلاف ذلك، يُفضي بنا هذا الواقع إلى التّوقّف عند بؤسنا، وأخطائنا الشّخصيّة. هذه النّظرة لا يجب أن تحبطنا، ولا أن توصلنا إلى موقف الّذي تخلّى عن الحماسات الكبرى والمشكّك. لأن السّيّد يريدنا كما نحن، مشاركين بحياته، مجاهدين لنكون قدّيسين. القدّاسة: كم مرّة نتلفّظ بـهذه الكلمة، وكأنّ صداها الفراغ. بالنّسبة للكثيرين، إنّه حتّى هدف متعذّر بلوغه، موقع تقشّفيّ عامّ، وليس هدفًا ملموسًا، ولا حقيقة حيّة. لم يكن ذاك رأي المسيحيّين الأوّلين الّذين كانوا يعتبرون طبيعيّاً وغالبًا بعضهم بعضًا قدّيسين: "يسلّم عليكم جميع القدّيسين"[8]، سلّموا على كلّ واحد من القدّيسين في المسيح يسوع[9].

أمّا الآن فيما نحن أمام لحظة الجلجلة هذه، وبما أنّ يسوع قد مات ومجد انتصاره لم يظهر بعد، فنحن أمام مناسبة مؤاتية لفحص أشواقنا لحياة مسيحيّة، للقداسة، حتّى نقاوم نقائصنا عبر فعل إيمان، ونأخذ القصد بإدخال الحبّ في أعمالنا اليوميّة، واثقين بقدرة الله. فاختبار الخطيئة ينبغي أن يقودنا إلى الألم، إلى قرار أكثر نضجًا وأعمق لنكون مخلصين، لنتماثل فعليًّا بالمسيح، فنثابر مهما كلّف الأمر في هذه المهمّة الكهنوتيّة الّتي أوكلها إلى تلاميذه بدون استثناء، والّتي تحثّنا على أن نكون ملح ونور العالم[10].

إنّ التّفكير بموت المسيح يُعبّر عنه بالدّعوة لوضع ذواتنا، بصراحة مطلقة، أمام واجبنا اليوميّ، فنحيا الإيمان الّذي نعلنه بجدّيّة. إذ لا يمكن أن يكون الأسبوع المقدّس فسحة مقدّسة، في إطار حياة تحرّكها حصراً المصالح البشريّة. بل ينبغي أن يكون مناسبة للدّخول في عمق حبّ الله، فنتمكّن من إظهار هذا الحبّ للنّاس، عبر كلامنا وأعمالنا .

لكنّ الرّبّ يحدّد شروطًا. وينقل إلينا القدّيس لوقا أحد إعلاناته، الّذي لا يمكن أن نتجاهله: "من أتى إليّ ولم يبغض أباه وأمّه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضًا، لا يستطيع أن يكون لي تلميذًا"[11]. تلك كلمات قاسية. طبعًا لا فعل "كَرِهَ" ولا فعل "أَبْغَضَ" يعبّران جيّدًا عن فكرة يسوع الأساسيّة. لكن، على كلّ حال، فكلمات الرّبّ هذه كانت قويّة، لأنّها لا تقتصر أيضًا على "أَحبب أقل"، كما نفسّرها أحيانًا بطريقة مخفّفة، لتلطيف العبارة. إنّه مُروِع هذا التّعبير الجازم، لا لأنّه يتضمّن موقفًا سلبيًّا أو قاسيًا، علماً بأنّ يسوع المتكلّم الآن هو نفسه الّذي يأمر بمحبّة الآخرين كما نحبّ نفسنا، والّذي يضحّي بحياته من أجل البشر: فهذه العبارة تعني ببساطة أنّ أمام الله لا وجود لأنصاف الحلول. نستطيع ترجمة كلمات المسيح ب "أَحبب أكثر، أَحبب أفضل"، أو بألاّ نحبّ حبًّا أنانيًّا، ولا حبًّا لا يتبصّر بالعواقب ، علينا أن نحبّ على مثال حبّ الله.

هذا ما هو عليه الأمر. لنركّز انتباهنا على آخر متطلّبات يسوع: "حتّى حياته نفسها". ألحياة، ألنّفس ذاتـها، هذا ما يطلبه الرّب. فإذا كنّا معتدّين، أو غير مبالين إلاّ برفاهيّتنا الشّخصيّة، وإذا أضحت ذواتنا محاور لوجود الآخرين والعالم، فلا يحقّ لنا لا أن نُدعى مسيحيّين، ولا أن نعتبر أنفسنا تلاميذاً للمسيح. إذ ينبغي أن نبذل ذواتنا بالعمل والحقّ، لا بالكلام وحسب[12]. فإنّ حبّ الله يدعونا إلى حمل الصّليب عاليًا، وإلى الشّعور بثقل البشريّة كلّها، ونتمّم تصاميم إرادة الآب الصّريحة والمحبّة في آن، في الظّروف الخاصّة بحالة وعمل كلّ فرد. في المقطع الّذي نعلّق عليه، يتابع يسوع: "من لم يحمِل صليبه ويتبعني، لا يستطيع أن يكون لي تلميذًا"[13].

لنقبلنّ بلا خوف مشيئة الله، ولنأخذنّ بلا تردّد، القصد ببناء حياتنا كلّها بما يتطابق مع تعليم ومتطلّبات إيماننا. ولنكن واثقين أنّنا سوف نجد في ذلك المقاومة، والألم والعذاب ؛ لكن، إذا ما سلكنا بموجب الإيمان حقًّا، لن نكون تعساء مطلقًا. حتّى في الحزن، والوشايات، سوف نكون سعداء، وتلك السّعادة تدفعنا إلى حبّ الآخرين، لنشركهم في فرحنا الفائق الطبيعة.


أَلمَسيحيُّ أَمَامَ تَاريخِ البَشَريَّة

أن يكون المرء مسيحيًّا، ليس لقب ترضية شخصيّ بحت: إنّه إسم – جوهر - يفترض رسالة. ذكّرنا سابقًا أن السّيّد يدعو جميع المسيحيّين ليكونوا ملح ونور العالم. وها هو القدّيس بطرس يحدّد الرّسالة، جاعلاً من نفسه صدىً لـهذه الوصيّة، ومعتمدًا على نصوص مأخوذة من العهد القديم، بقوله: "أمّا أنتم فإنّكم ذرّيّة مختارة وجماعة الملك الكهنوتيّة وأمّة مقدّسة وشعب اقتناه الله للإشادة بآيات الّذي دعاكم من الظّلمات إلى نوره العجيب"[14].

أن يكون المرء مسيحيًّا ليس أمرًا عرضيًّا، إنّها حقيقة إلـهيّة تتغلغل في الأعمق من حياتنا، وتمنحنا رؤية واضحة وإرادة موطّدة العزم للعمل كما يشاء الله. وهكذا ندرك أن سَفَرَ المسيحيّ في العالم ينبغي أن يصير خدمة متواصلة، متمّمة بطريقة مختلفة جدّاً، كما تقضي ظروف كلّ فرد، إنّما دائما حبًّا بالله والقريب. أن يكون المرء مسيحيًّا هو التّصرّف دون التّفكير بالأهداف الصّغرى من نفوذ أو طمع، ولا بالأهداف الّتي قد تبدو أكثر نبلاً، كحبّ الإنسانيّة أو التّعاطف مع الآخرين أمام تعاساتهم: إنّه التّفكير حتّى النّهاية القصوى والجذريّة للحبّ الّذي أبداه لنا يسوع المسيح بموته عنّا.

نصادف أحيانًا مواقف نابعة من عدم معرفتنا لكيفيّة الغوص في سرّ يسوع. فنرى على سبيل المثال: عقليّة الّّذين يرون في المسيحيّة مجموعة ممارسات أو أعمالاً تقويّة، دون إدراك علاقتها بظروف الحياة العاديّة وبالإلحاح الّذي علينا أن نوفّره في التّجاوب مع حاجات الآخرين ، ومحاولة معالجة الظّلامات.

لذا أصرّح بأنّ من وجدت فيه تلك العقليّة، لم يَعِ بعد ما معنى تجسّد ابن الله: فهو لم يعِ بعد بأنّه اتّخذ جسدًا، ونفسًا، وصوتًا بشريًّا، وشاركنا في مصيرنا إلى درجة الشّعور بتمزّق الموت المريع. ويعتبر بعض الأشخاص المسيح ربّما، دون قصد منهم ، مثل غريب في وسط النّاس.

فيما بعضهم الآخر يميلون إلى التّصوّر بأنّ عليهم أن يضعوا خفية بعض المظاهر الأساسيّة للعقيدة المسيحيّة، ويتصرّفوا وكأنّ حياة الصّلاة، ومقاربة الله المتواصلة، تؤلّفان مهربًا أمام مسؤوليّتهم الخاصّة وتخلّيًا عن العالم، لكي يتمكّنوا من أن يكونوا بشريّين. فهؤلاء قد نسوا أنّ يسوع هو من جعلنا ندرك إلى أيّ حدّ ينبغي أن نحيا الحبّ وروح الخدمة. إنّنا عندما نسعى لفهم خفايا حبّ الله فقط، هذا الحبّ الّذي يبلغ بنا إلى الموت، نستطيع أن نكون قادرين على إعطاء ذاتنا كلّيّا للآخرين، دون أن تهزمنا صعوبة أو لامبالاة.

إنّه الإيمان بالمسيح، المائت والقائم، الحاضر في كلّ لحظات حياتنا - وفي الّتي بينها - الّذي ينير ضمائرنا، داعيًا إيّانا إلى المشاركة بكلّ قوانا في تقلّبات ومشاكل التّاريخ البشريّ. فالمسيحيّ ليس مشرّداً في هذا التّاريخ، الّذي ابتدأ مع خلق العالم، وسوف ينتهي مع نـهاية الزّمان. إنّه مواطن من مدينة البشر، ونفسه عارمة بالشّوق إلى الله، فيبدأ باستشفاف حبّه تعالى منذ هذه الحقبة الزّمنيّة، ويدرك أنّ في الله وحده نجد الغاية الّتي دعينا إليها، نحن جميعا العائشين على هذه الأرض.

وإذا كانت شهادتي الشّخصيّة ذا منفعة، أستطيع القول إنّي اعتبرت دائمًا عملي ككاهن وكراع للنّفوس، مهمّة تبغي وضع كلّ إنسان بالمواجهة مع كلّ متطلّبات حياته، مساعدًا إيّاه على اكتشاف ما يطلبه الله منه عمليًّا، دون أن أضع حدوداً لـهذه الإستقلاليّة المقدّسة، ولـهذه المسؤوليّة الفرديّة السّعيدة، وهما ميزتا الضّمير المسيحيّ. فطريقة العمل هذه وهذا الرّوح يستندان على احترام سموّ الحقيقة المُعلَنة، وعلى حبّ حريّة الخليقة الإنسانيّة. كما يمكنني أن أضيف أنّها ترتكز على تأكيد لامحدوديّة التّاريخ، المفتوح على احتمالات عديدة، والّتي لم يشأ الله إغلاقها.

إنّ اتّباع المسيح لا يعني الإلتجاء إلى المعبد، برفع الأكتاف أمام تطوّر المجتمع، وأمام نجاحات أو شذوذ البشر والشّعوب. بل على خلاف ذلك، إذ إنّ الإيمان المسيحيّ يدفعنا إلى رؤية العالم خليقة للرّبّ، وبالتّالي إلى تثمين، كلّ ما هو شريف وكلّ ما هو جميل، والإقرار بقيمة كلّ شخص، مصنوع على صورة الله، والإعجاب بـهذه الـهبة الخاصّة الا وهي الحرّيّة، الّتي تجعلنا أسياد أعمالنا الخاصّة، قادرين، بنعمة السّماء، على بناء مصيرنا الأبديّ.

إنّه تصغير للإيمان، أن نعتبره إيديولوجيّة أرضيّة وحسب، بشهر راية سياسيّة - دينيّة، دون أن نعلم باسم أيّة تولية إلـهيّة، لإدانة أولئك الّذين لا يفكّرون بنفس الطّريقة مثلنا، حول مسائل قابلة، بطبيعتها، لحلول عديدة ومختلفة.


تَعْميقُ مَعْنى مَوْتِ المَسيحِ

إنّ الإستطراد الّذي قمت به لا هدف له سوى تسليط الضّوء على حقيقة محوريّة: ألتّذكير بأن الحياة المسيحيّة تجد معناها في الله. لم يُخْلَقِ البشر فقط لبناء العالم بأعدل طريقة ممكنة: لقد جُعِلْنا على الأرض لنكون على اتّصال مع الله نفسه. لم يعدنا يسوع لا بالرّاحة الزّمنيّة ولا بالمجد الأرضيّ، بل بمنـزل الله الآب، الّذي ينتظرنا في نـهاية الطّريق[15].

وليتورجيّة نـهار الجمعة المقدّس تتضمّن نشيدًا رائعًا: "الصّليب المخلص". هذا النّشيد يدعونا إلى تمجيد نضال الرّبّ المجيد ، غنيمة الصّليب، وانتصار المسيح البهيّ والإحتفال به: فادي الكون منتصر، وهو المُضَحَّى به. والله، سيّد كلّ ما هو مخلوق، لا يؤكّد وجوده بقوّة السّلاح، ولا حتّى بسلطة ذويه الزّمنيّة، إنّما بِعِظَمِ حبّه اللاّمحدود.

لا يحطّم الرّبّ حرّيّة الإنسان: فهو من جعلنا أحرارًا حقّاً. لذلك، فهو لا يريد أجوبة متصنّعة، بل يطلب قرارات تنبع من حميميّة القلب. هو ينتظر منّا، نحن المسيحيّين، أن نعيش بطريقة تجعل الّذين يعرفوننا، يستشفّون، خلف بؤسنا الشّخصيّ وأخطائِنا ونواقصنا، صدى مأساة محبّة الجلجلة. كلّ ما نملكه، تلقّيناه من الله، لنكون ملحًا يعطي الطّعم، ونورًا يحمل إلى البشر هذه البشرى السّارّة : ألله هو أب محبّ بلا حدود. ألمسيحيّ هو ملح ونور العالم، لا لأنّه يفوز وينتصر، بل لأنّه يشهد لحبّ الله. ولن يكون ملحًا إذا لم يُستَعملْ للتّمليح، ولن يكون نورًا إذا لم يقدّمْ شهادة ليسوع ، بمثله وعقيدته، وإذا فقد ما يكوّن علّة وجوده.

يجدر بنا أن نمتلىء بما يكشفه لنا موت المسيح، دون التوقّف على أشكال خارجيّة أو عبارات تفتقر للأصالة.

ينبغي أن نستغرق في التأمّل حقًّا بالمشاهد الّتي نحياها هذه الأيّام: وجع يسوع، دموع والدته، هرب تلاميذه، شجاعة النّسوة القدّيسات، جرأة يوسف ونيقوديمس، اللّذين يطلبان جسد الرّبّ من بيلاطس.

باختصار، فلنقترب، من يسوع المائت، من هذا الصّليب البارز في أعلى الجلجلة. لكن فلنقترب منه بصدق، عارفين أن نجد هذا الخشوع الباطنيّ الّذي هو علامة النّضج المسيحيّ. وهكذا تتغلغل في نفسنا أحداث الآلام، الإلـهيّة منها والبشريّة، مثل كلمة يخاطبنا الله بـها، ليكشف أسرار قلبنا ويعلن لنا ما ينتظره منّا في حياتنا.

منذ بضع سنوات رأيت لوحة بقيت محفورة بعمق في ذاكرتي. كانت تمثّل صليب المسيح وإلى جانبه، ثلاثة ملائكة: ألواحد كان يبكي بمرارة، والثّاني كان يمسك مسمارًا في يده، كمن يودّ الإقتناع بأنّ كلّ هذا كان صحيحًا، والثّالث كان غارقًا في الصّلاة. إنّه بالنّسبة إلى كلّ منّا، نـهج آنيّ على الدّوام: بكاء، إيمان وصلاة.

فلنتألّمنّ لخطايانا، وخطايا البشريّة،أمام الصّليب،وقد قادت يسوع إلى الموت. فلنعلن إيماننا، ولندخل هذه الحقيقة السّامية، الّتي تفوق كلّ إدراك ولنندهش أمام حبّ الله. ولنصلِّ كيما تغدو حياة المسيح، وموته، المثال والحافز، لحياتنا وسخائنا. حينها فقط نستطيع أن نُدعى منتصرين؛ لأنّ المسيح القائم سوف ينتصر فينا، والموت يغدو حياة.


1- ر. 1 قور 15 : 14

2- ر. روم 8 : 17

3- 1 يو 4 : 8

4. ر. يو 4 : 34

5. يو 19 : 30

6. ر. روم 3 : 24 ؛ عب 10 : 5 ؛ يو 7 : 39

7. 1 بط 2 : 5

8. روم 16 : 15

9. فل 4 : 21

10. ر. متى 5 : 13 – 14

11. لو 14 : 26

12. 1 يو 3 : 18

13. لو 14 : 27

14. 1 بط 2 : 9

15. ر. يو 14 : 2